البعض منا جرب أن يعيش حياته خارج الأجهزة الإلكترونية، وانغمس فى تفاصيل حكاياته خارج أسوار الهواتف، وكتب مشاعره بعيدًا عن الجدران الثلجية للتكنولوجيا، واكتشف أن الحياة خارج الأجهزة أجمل بكثير، ولكن لم يستطع الابتعاد عنها وعاد إلى صفوف مملكة التكنولوجيا. الصداقة الحقيقية تدوم طويلاً لأنها مبنية على عشرة يتقاسمها شخصان وتجمعهما ذكريات، سواء أكان على مقاعد الدراسة أو فى العمل أو الجيرة، وتتبلور بينهما قواسم مشتركة فى الميول والأفكار والاهتمامات، وهذا ما يضفى على علاقة الصداقة قيمتها الحقيقية، التى تجعل من الصعب التخلى عنها. الصداقة كلمة تحمل الكثير من المعانى، لكنها فى جوهرها علاقة إنسانية تنتج عن تفاعل روحى وتقارب عقلانى ومشاعر محبة واحترام حقيقية متبادلة. الإنسان فى كل مكان وزمان بحاجة إلى صديق بحكم طبيعته التى تجعله يأنس بصحبة الآخر، وهذا على الرغم من التحولات التى قد يطرأ على مفهوم الصداقة والصديق، فنظرية "الجماعات الأولية" فى علم الاجتماع، والتى يقصد بها الأفراد الذين تربطهم علاقات القرابة والجيرة والعمل والصداقة، تفترض أن تكون العلاقة الاجتماعية بينهم متوطدة وعميقة وقوية، ومن هنا فإن وجودهم مهم للغاية لحياة اجتماعية سعيدة، ولهذا يتمنى البعض لو تستمر علاقات الصداقة والصديق التقليدي، لما لها من انعكاس إيجابى على الترابط المجتمعى. لقد أصبحنا بحكم التكنولوجبا أمام مفهوم جديد للصداقة، يختلف عن ذلك الذى ألفناه طيلة حياتنا قبل عصر الإنترنت، هو مفهوم الصداقة العابرة للمحيطات والقارات، مفهوم الصديق "الإلكترونى" الذى لم نراه إلا عبر صورة، قد تكون حقيقية أو مزيفة، فالانتشار السريع للإنترنت ودخوله كل مجالات الحياة، غير من أنماط العلاقات الاجتماعية بشكل عام، ومن أنماط الصداقة بشكل خاص، تحت تأثيره الذى وسع دائرة الأصدقاء، فبات لكل منا مجموعته على فيس بوك أو تويتر أو غيرها من وسائل التواصل. البعض يرى أنه على المدى البعيد ستتفوق صداقات الإنترنت على الصداقات التقليدية، وأننا فى طريقنا إلى الاستغناء عن أصدقاء من "لحم ودم" على الرغم من أهميتهم، وبرغم أنه لن يعوضونا عن غيابهم الأصدقاء "إلكترونيين" فى أنظار البعض لن يعوضونا، فأصدقاء الإنترنت لم يدخلوا بيوتنا من أبوابها ولا نوافذها، دخلوها من أجهزتنا اإ كترونية، فكلما تم اختراع وسيلة تواصل اجتماعي، إزداد عدد الأصدقاء على شاشات أجهزتنا، فأصدقاء فيس بوك وتويتر والواتساب وانستجرام... أصدقاء كل هذه الاختراعات لا يمسحون دموعنا، لا يحملون لنا باقات الورد فى أفراحنا، لا يُحيطون عند المرض أسرتنا، ولا نتناول أدويتنا بأيديهم. أصدقاء النت شاركونا دهشة الاختراعات ومتابعة الثورات، ودافعوا عنا إلكترونيًا، وأحبونا إلكترونيًا، وناقشونا إلكترونيًا، وعبروا عن مشاعرهم تجاهنا بلايكات وكومنتات وتغريدات وبرودكاست، هم قريبون منا جدًا ورائعون جدًا، لكنهم لم ولن يعوضونا عن أصدقاء غادروا بيوتنا من أبوابها منذ زمن، رفاق لم تغطى وجوههم الأقنعة كما غطتها غبار الزمان. إن الفجوة الاجتماعية التى حدثت بين الناس، والتباعد الناجم عن الانشغال بأمور الحياة، جعلا كثير منهم يلجأون إلى الصديق الإلكترونى، الذى يصعب الجزم بحقيقة هويته ودوافعه، وربما يصل الحال عند البعض إلى حد التعود على هؤلاء المعارف الإلكترونيين، ليعيشوا معهم فى عالم غير واقعى، منفصل عن المحيط الاجتماعى والنفسى الذى يرتبطون به.