سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الصينيون يحققون حلمهم ويصنعون المعجزة الاقتصادية..سر حملة «خط الجماهير» التى كانت السبب فى التخلص من البيروقراطية.. وكيف تحولت الصين من «مصنع العالم» إلى المستثمر الأكبر فى الخارج ب 500 مليار دولار
فى نهاية نوفمبر 2013 زرت الصين بهدف التعرف على تجربتها مع الصحافة، وهناك وجدت أن الصحافة ليست مجرد المهنة التى تنقل المعلومة أو الخدمة للقراء، بل إنها صناعة متكاملة، فالمؤسسات الصحفية هناك مملوكة للدولة أو شركات حكومية أو غرف تجارية، ولدى كل منها مشروعاتها المرتبطة بها، فالمؤسسة الصحفية لا تقتصر على إصدار صحيفة أو مجلة، إنما لديها أذرع اقتصادية متعددة، فهى تضارب فى البورصة، وتمتلك العقارات التى تقوم بتأجيرها أو بيعها، ولدى بعضها شركات سياحة وشركات أخرى استثمارية، لذلك نادرًا ما تجد مؤسسة صحفية معرضة للخسارة، بل على العكس هناك مؤسسات تحقق أرباحًا سنوية تتخطى المليارى دولار، يُوزع جزء كبير منها على العاملين بهذه المؤسسة. ما تقوم به المؤسسات الصحفية فى الصين هو جزء من منظومة متكاملة ليست مقصورة على قطاع معين أو مدينة أو قرية، إنما نموذج ستراه بعينك فى كل مكان، لذلك لا تجد وصفًا لما يحدث هناك أقل من وصف «المعجزة الصينية»، وهو ما يطلق عليه الصينيون أنفسهم لفظ «الحلم الصينى»، وأيًا كانت المسميات، فإن الثابت أننا أمام تجربة تستحق الدراسة علها تكون مفيدة لنا. 1 - الحلم الصينى فى كل مكان ففى كتابه «عن الصين» قال وزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كيسنجر إنه لم يتوقع أن ترتفع قوة الصين إلى هذا الحد فى النظام الدولى بعد أربعين سنة من تبنيها سياسة الإصلاح والانفتاح، وهو الارتفاع أو الصعود الذى اعتبرته أيضًا وسائل الإعلام الغربية أنه الظاهرة الأكثر تأثيرًا فى سياسة العالم فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين. هذا الارتفاع أو الصعود مرتبط بالحلم الصينى الذى أخذ- ومازال يأخذ- حيزًا كبيرًا من المناقشات السياسية والاقتصادية الصينية، سواء داخل اجتماعات الحزب الشيوعى الحاكم، أو فى المنتديات العامة، هذا الحلم ليس له سقف محدد، فهو يشمل رغبة أكثر من مليار و400 مليون صينى فى تحديث بلدهم فى كل القطاعات، ثم المشاركة مع العالم بعد أن أصبحت الصين مفتوحة لكل صاحب حلم من أى مكان على الأرض. حلم الصين هو الثقافة التى يريد النظام الحالى فى بكين زرعه داخل نفوس كل صينى، لذلك تجده متجسدًا فى كل مكان، فى الإعلام والسينما والشوارع، أينما تذهب سترى أمامك الحلم الصينى المبنىّ على الإبداع والتسامح والحيوية. فى الصين، وحينما تلتقى مسؤولًا وتتحدث معه عن المعجزة ستجده يرد عليك بتلقائية أن ما يفعلونه ليس بمعجزة، إنما تستطيع أى دولة نامية أن تفعله، وتحقق ما حققته الصين إذا كانت لديها أهداف واضحة للقيادة ولكل فرد، ومشروع قومى قابل للتنفيذ، وإرادة سياسية، وقيادة لديها الكفاءة لإدارة التنمية، وحشد الجهود للعمل بجدية دون تهاون مع الفشل والانحراف، فإذا توافرت هذه العناصر تتحقق ما يسمونه حلمًا، ونسميه نحن معجزة. 2 - تحفيز المواطنين ودفع جرعة الأمل فى غد أفضل لعل أهم ما يمكن استنباطه من تجربة الصين أن نجاحها لم يكن فقط مرتبطًا بالعوامل الحسابية للنمو الاقتصادى، بقدر ارتباطها بالعوامل المعنوية، فالقيادة الصينية تعمل منذ فترة على تحفيز المواطنين، ودفع جرعة الأمل فى غد أفضل، والتى فجرها العمل السياسى فى نفوس الصينيين، كما أن الصين وهى تحاول جذب الاستثمارات الأجنبية فإنها لا تقتصر على الأقوال، إنما الأفعال التى تجعل المستثمرين يدركون أنهم لا يذهبون إلى بلد إلا إذا كانوا سيحققون فيه أكبر قدر من الربح المضمون، ويستطيعون تحويل أرباحهم دون الوقوع فى براثن البيروقراطية والرشاوى والعمولات، وهو ما تقوم به الصين التى توفر للمستثمرين الأجانب عوامل أساسية، مثل المطارات والموانى والطرق والمواصلات الحديثة والمنتظمة بريًا وبحريًا وجويًا، ووسائل الاتصال التى تمكنهم من الاتصال بأى مكان فى العالم دون مشاكل، فضلاً على مناخ استثمارى جاذب، من قوانين وفرص استثمارية لن تجد لها منافس، على الأقل فى المنطقة المحيطة بها. ولا يمكن إغفال أن أحد أسرار التقدم فى الصين أنها أصبحت تحترم أصحاب الخبرة والكفاءة، وتؤمن بأنها دون هؤلاء سيبقى المجتمع الصينى متخلفًا، وهذا ما جعل أعدادًا كبيرة من الخبراء الصينيين المهاجرين فى الغرب يعودون إلى وطنهم، ويقبلون العمل فى قيادة المصانع ومراكز التطوير التكنولوجى بدخول أقل مما يحصلون عليه فى الغرب، لشعورهم بأن وطنهم يحتاج إليهم. 3 - الخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية كان غريبًا أن تخرج الصين من الأزمة الاقتصادية العالمية دون أن يصيبها شئىء، لكن المتعمق فى الاقتصاد الصينى سيكتشف أن هناك عدة أسباب كانت تقف خلف ذلك، وأوصلت التنين الصينى إلى المكانة التى يتبوأها حاليًا، ويبقى أهم سبب هو المواطن الصينى نفسه الذى صنع بيديه المعجزة الاقتصادية. حتى نعرف ماذا فعل المواطن الصينى لبلده يجب أولاً أن نتعرف على الوضع الذى تعيشه الصين الآن، فالحكومة وقبل أن يسدل الستار على 2014 قالت إنها تسعى للحفاظ على استقرار معدل النمو الاقتصادى خلال عام 2015، مع الالتزام بسياسة مالية ونقدية حكيمة، مشيرة إلى أنها ستسرع بالإصلاح فى تسعة مجالات فى العام المقبل، بما فى ذلك سوق رأس المال، والنفاذ إلى السوق بالنسبة للبنوك الخاصة. وقال بيان صدر عن اجتماع حكومى حول السياسة الاقتصادية المستقبلية للصين نهاية ديسمبر إن الاستقرار من أهم عوامل سياسات الاقتصاد الكلى، وإن السياسة المالية لابد أن تكون أقوى، والسياسة النقدية لابد أن تكون أكثر عملية، وألمح البيان إلى أن الصين يمكنها تحقيق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية لعام 2014 بشكل جيد نسبيًا، مع بقاء الاقتصاد فى نطاق معقول رغم البيانات الاقتصادية التى توقعت أن الصين قد لا تتمكن من تحقيق هدف النمو السنوى بنسبة %7.5، بسبب التحديات التى تواجه الشركات، وظهور مخاطر اقتصادية. وحافظ الاقتصاد الصينى على زخمه خلال السنوات الست الماضية من عمر الأزمة المالية والاقتصادية التى ضربت المراكز الرأسمالية، ففى الوقت الذى يعانى فيه الاقتصاد الرأسمالى فى أوروبا وأمريكا واليابان من مخاطر استمرار الأزمة، وقيادة الاقتصاد العالمى نحو المجهول، ما زال الاقتصاد الصينى يسجل معدلات نمو مرتفعة، أقلها %7.7 خلال العامين الماضيين، متجاوزًا حتى توقعات الحكومة الصينية، علمًا بأن معدل النمو الاقتصادى العالمى %2.7، ولم يقتصر الأمر على ذلك، فالاقتصاد الصينى أصبح يشكل ضعف الاقتصاد اليابانى على الرغم من أن الاقتصاد الصينى لم يتجاوز الاقتصاد اليابانى إلا عام 2010، حين احتل المرتبة الثانية فى العالم بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية، وكل المؤشرات تقول إن الاقتصاد الصينى ماض بخطوات ثابتة نحو تجاوز الاقتصاد الأمريكى ليتربع على قمة الاقتصاد العالمى. لا شك أن الاقتصاد الصينى يتمتع بحيوية وديناميكية مكنته من تحقيق إصلاحات دائمة لمواكبة التطورات، والتكيف مع المستجدات ومواجهة المفاجآت. 4 - التاريخ يكتب الانطلاقة لا يمكن النظر إلى القفزة الهائلة التى شهدتها الصين دون التطرق للتاريخ، فقبل عام 1949 كانت الصين بلدًا زراعيًا، لكن جرى التحول حينما دعمت الولاياتالمتحدةاليابان فى الحرب الكورية، فجاء رد الاتحاد السوفيتى على هذا التحالف الأمريكى اليابانى بالاستثمار فى الصين لإنتاج الأسلحة والآليات الثقيلة، فتحولت الصين خلال سنوات قليلة من بلد زراعى بالكامل إلى بلد صناعى، ثم تراكمت خبرة التصنيع خلال الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، لكن ظل التصنيع مرتبطًا بالدولة طيلة هذه الفترة، ولم يكن هناك أى دور للأفراد، إلى أن حدثت الطفرة، فالصين كانت بلدًا اشتراكيًا، أى أن اقتصادها يعتمد على التخطيط، كما كانت لجنة مراقبة الانضباط فى الحزب الشيوعى الحاكم هى من يحدد أوجه تخصيص موارد الدولة، وفى أواخر السبعينيات وبعد أن ظهر القصور فى الاقتصاد الموجه، وبدا أن النظام الاقتصادى على وشك الانهيار، ولد النظام الجديد فى أواخر السبعينيات، بعدما قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعى التحول إلى اقتصاد السوق، لكن على الطريقة الصينية التى تعتمد الإصلاح تدريجيًا، وليس بنظام الصدمة. وبدأ الإصلاح فى المناطق الريفية بتدشين نظام الأسر المنتجة، ثم واصل انتشاره فى البلاد، وفى ثلاث سنوات طال الإصلاح قطاع الصناعة الذى استمرت به الصين فى انفتاحها الاقتصادى حتى انضمت إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001. المهم فى تجربة الصين الاقتصادية أن السوق الحرة هناك تنشطها المبادرة الفردية، وتخطط وتنسق لها الحكومة، وهذا ما يفسر النمو السريع للاقتصاد الصينى، وقد سمح للأفراد بإنشاء مشاريعهم الصناعية، وإنماء ثرواتهم الفردية، وهو ما أضفى الحيوية على المجتمع، وجعل الحزب الشيوعى الحاكم ينجح فى تحقيق التنمية الاستراتيجية، ولم يتوقف الأمر لدى الصينيين عند إمداد السوق المحلية بالمنتجات الصناعية الاستهلاكية، إنما يتطلعون إلى السوق العالمية. وللتجربة الصينية وجه مهم، فالشركات المملوكة للدولة أو ما تسمى بالشركات الحكومية تقوم بعدة وظائف حيث تقوم بإنقاذ السوق عند الفشل، وبتحسين القدرة التنافسية للإنتاج المحلى، وبطرق مجالات يعزف عنها القطاع الخاص، ولذلك فإن الشركات الحكومية تستحوذ على قرابة %50 من حجم نشاط الاقتصاد الصينى، مركزة فى الأساس على مجالات معينة، مثل الصناعات الثقيلة التى لا يمكن للقطاع الخاص التنافس فيها، فعلى سبيل المثال استثمرت الدولة مبالغ طائلة فى القطار السريع، وهو مشروع له مستقبل واعد، إنه «مشروع الحكومة الصينية». 5 - انطلاق شركات إنترنت صينية فى 2014 وبنظرة إلى الصين فى 2014 سنجد أنها شهدت علامات واعدة، منها ازدهار صناعة التكنولوجيا، فهناك أكثر من 10 شركات إنترنت صينية أطلقت عروضها العامة الأولية فى سوق الأسهم بالولاياتالمتحدة، من بينها شركة «على بابا»، وتستعد بكين للسماح للسوق بأن تلعب دورًا حاسمًا فى الاقتصاد، وسوف تتخذ خطوات إصلاحية فيما يتعلق بالأراضى والضرائب، والشركات المملوكة للدولة، ونظام التسجيل المنزلى، وكشفت التقارير الاقتصادية الدولية عن تحقيق الصين قفزات اقتصادية كبيرة خلال العام الماضى فى حجم تجارتها مع دول العالم المختلفة، حيث ذكرت وكالة أنباء «شينخوا» فى تقرير لها أن الجمارك الصينية أكدت أن إجمالى قيمة الصادرات والواردات فى الصين تجاوز 4 تريليونات دولار أمريكى للمرة الأولى، ليصل إلى 4.16 تريليون دولار أمريكى خلال العام الماضى. 6 - مكافحة الفساد أولى خطوات الإصلاح ويعد عام 2014 هو أول عام كامل لتعميق الإصلاح بشكل شامل فى الصين، وهو ما تم إعلانه خلال اجتماع مهم للحزب الشيوعى الصينى فى نوفمبر عام 2013، حيث اجتمعت المجموعة القيادية للإصلاح الشامل ثمانى مرات خلال عام 2014، وتم الانتهاء بشكل أساسى من ثمانين مهمة إصلاح أساسية محددة لعام 2014، وخلال العام الماضى قامت الصين بتفويض وإلغاء مئات البنود المتعلقة بالفحوصات والموافقات الإدارية، وتم إطلاق جولة جديدة من اتجاه «الحضرنة» جنبًا إلى جنب مع إصلاح نظام توزيع الدخل، ونظام تسجيل الأسر. والإصلاح هناك مقترن بمحاربة الفساد المتفشى الذى ترى القيادة الصينية أنه قد يهدد وجود الحزب والدولة، وخلال العام الماضى تم إحالة مجموعة من كبار المسوؤلين، سواء ما زالوا فى الخدمة أو تقاعدوا إلى التحقيق، من بينهم تشو يونج كانغ، وشو تساى هو، ولينج جى هوا، وسو رونج، ومنذ نقل السلطة فى نهاية عام 2012 تم التحقيق مع العشرات من المسؤولين على مستوى الوزراء أو معاقبتهم وفقًا للقانون، وخلال النصف الأول من العام الحالى قامت سلطات مكافحة الفساد بمعاقبة أكثر من 84 ألف مسؤول بزيادة %30 على أساس سنوى، كما أطلقت الصين أيضا حملة لصيد الثعالب خلال العام الحالى لضبط المسؤولين الذين يشتبه فى تورطهم فى جرائم اقتصادية وفروا خارج البلاد. وانتهت حملة «خط الجماهير» التى استمرت عامًا كاملًا فى أكتوبر الماضى، وتهدف الحملة للتخلص من أنماط العمل غير المرغوب فيها، والتى تشمل الشكلية، والبيروقراطية، ومذهب المتعة والبذخ. وبعد عامين من تطبيق «نظام النقاط الثمانى» انخفض إنفاق الهيئات الحكومية بدرجة كبيرة، وأصبح المناخ لأنماط الحياة والعمل المقتصدة شائعًا، وتعد روح حملة «خط الجماهير» واحدة من الأدوات الرئيسية التى قادت الحزب الشيوعى الحاكم لتحقيق نجاح ثورى ولن تنتهى تلك الروح أبدًا، وحددت القيادة الصينية ترتيبات وخططًا مؤسسية للعديد من المجالات الأخرى، وهو ما لا يهدف فقط لتحقيق هدف بناء مجتمع شامل يتسم بالرخاء بحلول عام 2020، إنما أيضًا الحفاظ على الاستقرار الطويل المدى للبلاد. وتبنى الحزب الشيوعى الصينى خطة إصلاح قانونى شاملة خلال اجتماع مهم فى أكتوبر الماضى، اعتبرت خارطة طريق جديدة تهدف لدفع حكم القانون فى ثانى أكبر اقتصاد فى العالم خلال فترة تتراوح بين خمسة وعشرة أعوام مقبلة أو أطول. 7 - مصنع العالم يتحول لسوق مفتوحة معجزة الصين مرتبطة بأمر آخر، فحتى وقت قريب جدًا كانت تلقب ب«مصنع العالم»، لكن الفترة الأخيرة شهدت تغيرًا فى مسيرة انتقال الصناعة الدولية، فلم تعد الصين دولة كبيرة من حيث جذب الاستثمارات الأجنبية فحسب، إنما أيضًا من حيث توظيف أموالها فى الخارج، فمن المتوقع أن يصل حجم الاستثمارات المتراكمة للمؤسسات الصينية فى الخارج إلى 500 مليار دولار أمريكى فى نهاية الخطة الخمسية ال12 2011/ 2015، فى حين يبلغ حجم المشاريع فى الخارج 250 مليار دولار أمريكى، حسبما قال تشن رون يون، مسؤول من وزارة التجارة الصينية، ونقله عنه وكالة «شينخوا» نهاية ديسمبر الماضى. وأظهرت البيانات الصادرة من الوزارة أن حجم الاستثمارات للمؤسسات الصينية فى الخارج قد وصل الآن إلى ما يزيد على 320 مليار دولار أمريكى، مع بلوغ إجمالى أصولها أكثر من 1.6 تريليون دولار أمريكى.