بديهى أن تكون الإجابة عن السؤال هى الإجابة التقليدية المشحونة بالحماس والحب والمسكونة بالمشاعر الوطنية الجياشة «نعم وألف نعم فالوطن هو أمى وأخويا وأبويا وكل عائلتى.. نيله فى دمى ولونه فى ملامحى».. وأشياء كثيرة أخرى بالتأكيد الكل يعرفها من الصغير إلى الكبير، لكن لماذا يكون حب الوطن فرضا وواجبا وإجبارا، وما عقوبة من لا يعترف بهذا الحب الفرض، هل هو خائن للوطن وعديم الوطنية، أم أن المسألة خاضعة للنقاش ووجهة النظر؟ عندما غنى موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب عام 1936 من ألحانه وكلمات الشاعر أمين عزت الهجين «حب الوطن فرض عليا، أفديه بروحى وعنيا» رددها وراءه ملايين المصريين فى مواجهة الاحتلال الإنجليزى فى ذلك الوقت، رغم ما قيل بعدها من بعض مؤرخى الموسيقى العربية إن عبدالوهاب غناها كنوع من المصالحة مع مصطفى النحاس باشا زعيم الوفد ورئيس وزراء مصر الأسبق وتأييده بعد توقيع اتفاقية 36 مع الإنجليز.النحاس باشا كان قد وجه عتابا رقيقا لعبدالوهاب بعد غنائه موال «مسكين وحالى عدم من كتر هجرانك، ياللى تركت الوطن والأهل علشانك» وسأله مستنكرا: «مين دى يا عبدالوهاب اللى تهجر الوطن عشانها؟!» فغنى عبدالوهاب «حب الوطن فرض عليا». ولم يكن يدرى أن ألسنة المصريين ستغنى وتهتف بها جيل وراء جيل وقلوبهم ستذوب عشقا فيها لسنوات طويلة. ولم يكن عبدالوهاب يدرى أيضا أن الأغنية ستتحول فى زمن ما مثل الزمن الذى نعيشه إلى قضية للجدل والنقاش، وأن يأتى من بعده من يلخص حالة جيل كامل وموقفه من «الحب الفرض للوطن» بتساؤل: «يعنى إيه كلمة وطن.. يعنى أرض.. حدود.. مكان ولا حالة من الشجن؟!». النقاش والجدل فى الأخير قفز فى السنوات الأخيرة وربما قبلها بسنوات قليلة من فوق أسوار الأغانى إلى حلبة الصراع والصدام الفكرى ليس فقط بين المؤمنين بالفرض وبين الذين قالوا عنه «طز فى مصر» وأنه مجرد «حفنة تراب نتنة»، وإنما أيضًا بين طائفة غير قليلة العدد من أبناء هذا الجيل الذى رأت فى «حب الوطن فرض عليا» أمر غير واقعى ويحتاج إلى إعادة نظر، فالوطن ليس أرضا وميلادا وأصدقاء وأهلا وناسا فقط، وإنما حقوق تؤدى وواجبات تعطى، وقيم ومبادئ تفرض لتحقيق العدل والمساواة.يعنى الحب «مش بالعافية» حتى لو كان حب الوطن الذى نقضى فيه «عز الشباب ويسكن فيه الأحباب ونرضع هواه ونرتوى بنيله ونحب أرضه وسماه». هل معنى ذلك أن الجيل الذى أحب مصر على طريقة عبدالوهاب وافتخر بمصريته واعتز بوطنيته واهتز قلبه ودمعت عينه عند سماع الأغنية و.. «بلادى بلادى» و«يا أحلى اسم فى الوجود يا مصر» وضحى من أجل وطنه بروحه ودمه، قد ضاع حبه هباء وضيع فى الأوهام عمره؟ يقينا لا وألف لا، بل مات شهيدا لأنه مات فداء للوطن المحبوب، ولا علاقة له بجدل ونقاش الزمن الحالى الذى أصبح سؤال «حب الوطن» سؤالا شائكا وصعبا والإجابة عليه أكثر صعوبة بعد أن تحولت الانتماءات وتغيرت الولاءات وتبدلت المشاعر والأحاسيس إلى «بضاعة» للبيع والشراء لمن يدفع أكثر. فى هذه الحالة تبدو الإجابة عن سؤال «هل أصبح حب الوطن فرض عليا» عسيرة للغاية، فعندما يهان الوطن باسم الدين ويصبح الانتماء الدينى أهم من الانتماء للوطن، وأنه «طز فى مصر وفى أم مصر ولا ضير أو خيانة أن يحكمها مسلم غير مصرى يصبح الفرض نافلة»، فالوطن عند تجار الدين هو معبر وليس مقرا وسكنا مؤقتا وليس كينونة حياة، وهو عند «النشطاء» لافتة تتوارى خلفها «السبوبة» والولاء للآخر أو لمن يدفع أكثر ويتساوى هؤلاء فى تعريف الوطن.. «مجرد حفنة تراب لا قيمة لها والتضحية من أجله عزيزة عليهم» فالأهداف مختلفة والإغراءات متعددة. الأجيال أو الجيل الحالى تحديدا نلتمس له كل العذر عندما يطرح عليه السؤال الصعب «هو لسة حب الوطن فرض عليا»، فهو قد سمع وقرأ وشاهد من يخطط للفوضى باسم الوطن، ومن يهتف ضد جيشه ومن يحرق فيه ومن يتاجر ويزايد بشعارات الحرية والديمقراطية على جثة الوطن، ومن يتخلى ويهرب تاركا الميدان والمسؤولية فى الوقت الصعب. إذن فى هذا الزمن هل يستحق الوطن أن «أفديه بروحى وعنيا».. ويظل حبه « فرض عليا».أنا هنا أسأل بلسان شاب ينتمى للجيل الحالى تخلى عنه وشوش فكره الجميع، فالدولة منذ زمن أهملت تعليمه وتربيته على حب الوطن وعلى مبدأ الحقوق والواجبات، وتجار الدين شوهوا مفاهيم الديانات عنده ومسخوا صورة الوطن فى ذهنه، رغم أن الأنبياء والرسول أعلوا من قيمة وشأن الأوطان ولم يضعوا الوطن فى مواجهة العقيدة، فالنبى الكريم محمد «ص» أعطى الدرس فى تكريم الإسلام للوطن فى هجرته مرغما من مكة إلى المدينة ومخاطبته وطنه الذى نشأ وتربى فيه: «والله أنك أحب أرض الله إلى الله وأحبها إلى نفسى.. ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت» ثم زرفت من عينيه الكريمتين دموع الحزن والفراق لوطنه الحبيب.. حبا وحنينا. ثم أكمل «النشطاء» بقية المهمة فى المسخ والتشويه وتفريغ الوجدان من «الحب الفرض» بشعارات السقوط وبالتضامن مع الآخر وبالالتحاف بألوان علم الوطن ورسمه مثل «القناع» فوق الوجوه. نعيد تكرار السؤال ولن نمل من تكراره «هل ما زال حب الوطن فرض عليا». وأجيب أيوة هو فرض وسنة ونافلة وهو الشرف والعرض والأرض والجنة والنار والابتلاء والاختبار، وهو الأجمل والأسوأ وهو الأقوى والأضعف، الأرق والأقسى. لن نتخلى عنه ولن نخذله ولن نهرب بعيدا عنه ولن نساوم عليه بكنوز الأرض. لا تهتز ولا ترتبك ففى كل زمان ومكان ومنذ «يهوذا» هناك من يقدمون على خيانة وطنهم وبيع ضمائرهم وتاريخهم الشخصى إن كان لهم تاريخ وشخصية، والتعاون مع أعداء الوطن والتاريخ والحقيقة، لينالوا الخسران والعار والخجل الذى يلاحقهم حتى وهم فى نومهم. خيانة الوطن جريمة لا تغتفر ومن يقدم عليها يستحق أقسى العقوبات، وأن مصير الخونة إلى زوال وثمن الخيانة كبير يجب أن يتحملها من باع ضميره ووجدانه وأدار ظهره لوطنه وأهله، فلا فرق بين خيانة الوطن وخيانة الصديق والحبيب، الوطن هو كل هؤلاء هو الأم والأب والابن والصديق والحبيب ومن يخون الوطن فقد خان كل هؤلاء. ربما يكون أثر خيانة الصديق أو الحبيب على فرد، أما خيانة الوطن فأثرها على أمة بأكملها. واحذر أيضا من الذى يتحدث كثيرا عن حب الوطن والهيام فيه والذوبان فيه عشقا عبر الصحف والفضائيات وأمام الميكروفونات دون أن يمد يديه فى جيبه ليخرج جنيها للمساهمة فى مشروع أو صندوق خيرى، واسأل نفسك لماذا يهب الفقراء والبسطاء دائما لتلبية نداء الوطن فى كل الأزمات والملمات مع أن بعضهم أو كثيرهم لم يسمع أغنية عبدالوهاب، لماذا تجدهم فى أول الصفوف. عاود السؤال الصعب من جديد وبشفافية مرة أخرى بعيدا عن النشطاء «وتجار الدين» و«المزايدين» ستجد نفسك تردد وبالصوت العالى نعم ما زال «حب الوطن فرض عليا أفديه بروحى وعنيا».