تتمتع مصر الآن بوجود حريات متفاوتة وبدايات لملامح ديمقراطية قد تكون سليمة فى معظم الأحيان، إلا أن هناك سلبيات كثيرة وفروقات فردية فى المعيشة التى أرهقتها ارتفاع الأسعار وعجزت عن مجاهدتها ميزانيات الأسرة الصغيرة .. إلا أن مصر صاحبة المعارضة المغيبة.. والحزب الواحد.. وانعدام الطبقة الوسطى فى مقابل بذخ قلة "مقربة".. إضافة إلى تدهور الخدمات الصحية والتعليمية والمواصلات وتفاقم البطالة والاستعداد للانتحار فى سبيل الحصول على لقمة العيش.. وعشوائيات متنامية وتخبط فى القرارات.. وتحرشات جنسية وحالات اغتصاب.. ولا تستطيع أن تفرق بين انهيار المبانى وانهيار قيم أخلاقية. والنتيجة انتشار الفساد، حتى أصبح مستشرياً فى ظل تسلط القوى.. هذا حال الشارع المصرى اليوم.. اليوم هو الثامن عشر من يناير 2010. فماذا كانت حال هذا الشارع فى مثل هذا اليوم منذ أكثر من ثلاثين عاماً.. كانت هناك بعض الضغوط من صندوق النقد الدولى على الدكتور زكى شافعى وزير الاقتصاد فى حكومة وزير الداخلية السيد ممدوح سالم رئيس مجلس الوزراء فى عام 1977، وتمثلت تلك الضغوط فى توصيات إن لم تكن طلبات وضغوطاً من الصندوق نحو الإصلاح الاقتصادى، الذى لم يتحقق إلا باتخاذ إجراءات حاسمة كخفض سعر الجنيه، ورفع أو خفض الدعم لبعض السلع الضرورية، مثل الخبز والسكر والزيت والوقود وبعض أنواع الأقمشة الشعبية، وبعد شد وجذب ومداولات، وافق المجلس الموقر على طلبات الصندوق وخرجت صحف يوم 17 يناير 1977 معلنة على صفحاتها الأولى قائمة بخمس وعشرين سلعة أساسية تم رفع أسعارها مرة واحدة. فما الذى فعله الشعب نتيجة لهذا الارتفاع والتطاول على قوت يومه وحرمانه من بعض ما يستحقه مما كان يعود به فى هذه الأيام من تحقيق الرفاهية الاقتصادية لكل مواطن؟ ما كان منه إلا أن خرج عن صمته فى وجه النظام، وأعلن رفضه لسياساته وتجاوزاته متحدياً كل السلطات، وشهد صباح يوم 18 يناير انفجاراً شعبياً هائلاً، بدأ فى الإسكندرية من طلبة كلية الهندسة والجامعة وعمال الترسانة البحرية وشركة باتا، وبعد قليل ومن دون تنسيق، انفجر الوضع فى القاهرة وحلوان والمحلة، فاندفعت إلى الشوارع فى كل مكان كتل بشرية من عشرات الألوف من الرجال والنساء فى انتفاضة شعبية ساخطة ورافضة لتلك القرارات، التى نزلت عليهم كالصاعقة.. ولم ينتصف نهار 18 يناير، حتى كانت المظاهرات تجتاح شوارع مصر كلها من السكندرية إلى أسوان، ولم يكن أمام السادات، إلا أن يصدر الأمر للجيش بالتدخل وإعلان الأحكام العرفية وحظر التجول، وتولى الجيش مهام الأمن ومسئوليته، ولم تهدأ المظاهرات إلا بعد تراجع السادات عن قرارات المجموعة الاقتصادية ورجوع الحال لما كانت عليه قبل تلك الهبة الشعبية. كانت ذلك هى حال الشارع المصرى بجميع فئاته وطبقاته منذ أكثر من ثلاثين عاماً، الذى هبّ وثار لأن رغيف العيش أصبح ب "عشرة مليمات بدلاً من خمسة"، وارتفع سعر كيلو اللحمة وأصبح ب "جنيه بدلاً عن 68 قرشاً"، فخرجوا يهتفون ويحتجون "سيد بيه سيد بيه كيلو اللحمة بقه بجنيه" وسيد بيه هو سيد مرعى رئيس مجلس الشعب خلال تلك الفترة. بالطبع ليس هناك أى وجه مقارنة بين تلك الزيادات فى الأسعار عام 77، والارتفاع الجنونى والمستمر بل والمستفز الآن، وكأنها أصبحت تواكب عصر العولمة وسرعة انتقال المعلومات، فأصبح السعر يتغير فى اليوم الواحد أكثر من مرة ولا أحد يحرك ساكناً، وكأن الشعب أصبح مغيباً وعلى رأسه الطير لاهياً تائهاً لا يعلم هل يشعر بما يدور من حوله وفى بلده وعلى أرضه فاقداً للكثير من حقوقه مفرطاً فى أهم واجباته. ما الذى أصابنا؟ هل لم تعد لدينا الرغبة والدافع فى أن نحيا حياة كريمة تتوافر فيها متطلباتنا الأساسية؟ أم أننا أصبحنا كالنعام ورضينا بما نحن فيه وعليه أصبح كما يقال "ليس فى الإمكان أحسن مما كان"؟ أتذكر قصة لحكيم صينى مع أحد طلبته أوردها الدكتور إبراهيم الفقى فى إحدى محاضراته.. سأل الطالب الحكيم الصينى وأراد أن يعرف منه سر النجاح؟ فأجابه الحكيم أن سر النجاح هو الدوافع ... فسأله الطالب ومن أين تأتى تلك الدوافع؟ فأجابه من رغباتك المشتعلة، فاندهش الطالب واستغرب وسأل كيف تكون لدينا رغبات مشتعلة؟ هنا استأذن الحكيم الصينى الطالب دقائق عدة وعاد ومعه وعاء كبير به ماء وسأله هل مازلت متأكداً أنك تريد معرفة مصدر الرغبات المشتعلة؟ فأجابه الطالب نعم. فطلب منه الحكيم أن يقترب من وعاء الماء وينظر فيه... فنظر الطالب إلى الماء عن قرب وفجأة ضغط الحكيم بكلتا يديه على رأس الطالب ووضعها داخل وعاء الماء... ومرت ثوان عدة ولم يترك الطالب، ثم بدأ الطالب ببطء يخرج رأسه من الماء، ولما بدأ يشعر بالاختناق، بدأ يقاوم بشدة حتى نجح فى تخليص نفسه وإخراج رأسه من الماء... فنظر له الحكيم وسأله ما الذى تعلمته من تلك التجربة، فقال الطالب لم أتعلم شيئاً، فنظر له الحكيم قائلاً: لا يا بنى لقد تعلمت الكثير ففى الثوانى الأولى أردت أن تخلص نفسك من الماء، لكن دوافعك لم تكن كافية لعمل ذلك، وبعد ذلك وبمرور الوقت كنت دائماً راغباً فى تخليص نفسك، فبدأت فى التحرك والمقاومة ولكن ببطء، إذ أن دوافعك لم تكن وصلت لأعلى درجاتها، وفى النهاية أصبحت لديك الرغبة المشتعلة لتخليص نفسك وإنقاذها، وعندها فقط نجحت لأنه لم تكن هناك أى قوة فى استطاعتها أن توقفك، ثم أضاف الحكيم الصينى "عندما تكون لديك الرغبة المشتعلة للنجاح فلن يستطيع أحد إيقافك". فهل حان الوقت كى نخرج رؤوسنا من هذا الوعاء أم ما زال أمامنا ثلاثون عاماً أخرى كى تتكون لدينا تلك الرغبة المشتعلة، ليس فى النجاح بل فى تغيير حياتنا وإنقاذها؟