فور الإعلان عن رؤية هلال رمضان تتحول محلات بيع العصائر الطبيعية والتقليدية فى مختلف الدول العربية إلى "خلية نحل" لمواجهة الإقبال المتزايد عليها خلال شهر الصوم. وفى هذا الشهر تكتسب المشروبات والمرطبات الشعبية مكانة بارزة على مائدة رمضان نظرا لفوائدها الصحية والغذائية، لتتفوق على المشروبات الغازية كالكوكاكولا والبيبسى وغيرها والعصائر الصناعية بكافة علاماتها التجارية العالمية. ف"العرقسوس" و"السوبيا" وفى مصر، و"الآبرى" فى السودان، و"البيذان" فى الكويت، و"الجلاب" فى لبنان، و"الشاربات" فى الجزائر، و"النقيع" فى اليمن عصائر تختلف فى الاسم ولكنها تتشابه فى طريقة الإنتاج وكذلك التوزيع، وكثافة الإقبال عليها خلال شهر رمضان، بحسب ما أظهرته جولة لمراسلى الأناضول فى دول عربية عدة. وتزايد الإقبال على تلك المرطبات الشعبية التقليدية مع ارتفاع درجات الحرارة فى شهر الصوم والذى تزامن مع شهر يوليو- تموز الذى تواجه خلاله العديد من الدول العربية والإسلامية طقسا حارا، الأمر الذى جعل تلك العصائر أهم ما تحرص كل الأسر، مهما اختلف مستواها المادى، على تواجده ليكون "سيد المائدة" بلا منازع. ويكاد يكون شهر رمضان فى السودان مردافا لغويا لمشروب "الآبرى" الأكثر تفضيلا عند أهله، حيث يمكن أن يختفى أى عنصر من مائدة الإفطار إلا هذا المشروب الشعبى الذى لا تنافسه أى من المشروبات الأخرى سواء العصرية أو التقليدية. فعندما تتناول كوبا من الآبرى فهذا يعنى أنك شربت عصارة 3 أسابيع من الجهد المتواصل لصناعته التى تتكفل بها النسوة ويتنافسن فى جودتها. "والآبرى" خلاصة خلطة من الذرة والتوابل يتم إعداده على عدة مراحل تبدأ بوضع الذرة البيضاء على أرض طينية رطبة تفرش بجوالات مصنوعة من الخيش تساعد على ترطيبها وهذه العملية تسمى "التزريع" بعدها بأيام يتم تجفيف الذرة بوضعها فى أماكن تصلها أشعة الشمس وغالبا ما تكون أسقف المنازل ومن ثم طحنها قبل أن يتم عجنها مخلوطة بالتوابل. والمرحلة قبل الأخيرة هى إعداد فطائر رقيقة من العجنة باستخدام أفران بلدية تتكون من صاج حديدى يوضع على جمرات من الفحم النباتى أو الحطب. وتتميز هذه الفطائر بسرعة ذوبانها فى الماء. بعدها تأتى المرحلة الأخيرة التى ينتظرها كل أفراد المنزل بشغف وهى تصفية الماء الذى تحول إلى عصير "الآبرى". ويكتسب المشروب شهرته من قدرته على منع العطش من الصائم لمدة أطول خلال ساعات النهار كما تقول نفيسة عوض السيد المشهورة وسط جاراتها بإتقان صناعته. وتشير نفيسة لمراسل الأناضول إلى ميزة مرادفة هى قدرة المشروب على "إرواء من يتناوله من العطش سريعا" قبل أن تستطرد فى حديثها لوكالة الأناضول "لهذا أحرص على أن يتناوله أفراد أسرتى عند السحور والإفطار". "ومنذ الساعة الخامسة عصرا (15.00 تغ) وأنا أقف انتظر دورى فى شراء العصير"، يشكو للمواطن الأردنى أبو أحمد من الطوابير والزحام الذى لا ينقطع قبل ساعات من الإفطار فى إحدى زوايا منطقة وسط البلد فى العاصمة الأردنية عمان، والتى تشتهر ببيع مشروبى "التمر هندى والخروب". ولكن هذه الشكوى لا تضاهى فرحة حصول أبو أحمد على "كيسين" من العصير يزن كل منهما النصف كيلوغرام ويكلف نصف دينار (0.7 دولار) ليرطب بها جوفه فور سماعه آذان المغرب. ووسط زحام الصائمين على "براميل" العصائر، يقف محمد صاحب محل لبيع التمر هندى والخروب فى أحد زاويا العاصمة الأردنية، منظما الدور، يقول للأناضول: "عندى زباين من كل محافظات المملكة، وفى شهر رمضان يأتى آخرون جدد". ويعزو محمد سبب توافد المئات من العطشى على متجره إلى طبيعة المنتج الذى ينفرد عن غيره بطعمه اللذيذ، وطبيعة تحضيره البسيطة. وعلى مقربة من محمد يقف شاب فى انتظار فرصة الحصول على كيس من عصير، لكن استماعه لتفاصيل الحديث دفعه إلى المشاركة، قائلا "غدت عصائر الخروب والتمر هندى مرتبطة فى أذهان الأردنيين فى شهر رمضان رغم أنه يبيع العصير طيلة أيام السنة"، معتبرا أن رخص المنتج وطبيعة مذاقه وراء إقبال الناس على شرائه. وفى لبنان، حافظت المشروبات الرمضانية، من "سوس" و"التمر هندي" و"الجلاب" (شراب داكن اللون مصنوع من دبس العنب، لب الزبيب، ماء الورد والسكر)، على مكانتها لدى الصائمين فى هذا الشهر المبارك. ومنذ بداية شهر الصوم، انتشرت فى شوارع بيروت أكشاك بيع هذه المشروبات فى عبوات بلاستيكية تغرى بألوانها المختلفة، لتضفي، إلى جانب الزينة، جوا رمضانيا مألوفا. والمشهد لا يختلف كثيرا فى مصر، حيث يهيمن على مائدة المشروبات المصرية، "الخشاف" و"العرقسوس"، يتبعهما فى المرتبة "التمر" و"السوبيا" و"العناب" و"السكالانس" (مزيج من التمر والسوبيا والعناب). ويتميز المصريون فى طريقة صنع وتناول "الخشاف"، وتكون مكوّنها الرئيسى هو البلح، بالإضافة إلى عدة فواكه مجفّفة، ك"القراصية" و"المشمش" و"الزبيب"، وعدد من "المكسرات" منقوعا فى "قمر الدين"، ويسموه المصريون "سيّد عصائر الصائمين". أما المنافس الآخر فهو "العرقسوس" (منقوع نبات العرقسوس مضافا إليه بيكربونات الصوديوم)، حتى أن السائر فى شوارع مصر قبيل المغرب يجد طوابير على بائعى "العرقسوس"، فى الوقت الذى تقوم عدد من السيدات بتصنيعه فى المنزل. وفى اليمن تشتهر صنعاء وعدد من المحافظات الشمالية بمشروبات رمضانية "منقّعة" مثل مشروب القديد (المشمش)، ومشروب الزبيب بأشكاله وألوانه المختلفة، إضافة إلى مشروب الشعير، والتوت. ويتم تحضير هذه المشروبات الرمضانية ب"نقع" حبات المشمش والزبيب والشعير المجفف فى الماء الدافئ لمدة يوم كامل، حسب "عبدالله سنهوب" وهو بائع مشروبات منقعة فى حى الجحملية بمدينة تعز (شمال). ويضيف "سنهوب" لمراسل الأناضول "ظمأ الصائم لا يذهب إلا بالمشروبات المنقّعة، هذه مشروبات طازجة ولا يخشاها الناس كتلك المشروبات المعلبة والمليئة بالمواد الكيماوية والتى قد تتعب معدة الصائم". ويرى المواطن اليمنى "خالد يحيى" للأناضول قائلا "الحر الزائد يجعل كل هم الصائم هو العطش أكثر من الجوع، ولذلك نجد التزاحم يشتد أمام هذه المشروبات، وأحيانا تنفذ الكمية قبل وقتها المعهود سابقا". ومازال "البيذان" (شراب اللوز) حاضرا على مائدة رمضان فى الكويت، ويقول المرجع فى التاريخ الكويتى صالح العجيرى للأناضول فى "شربة بيذان عبارة عن أنها نوع من المكسرات تسحق ويوضع معها سكر و يضاف لها الماء و تخلط معا لتصبح شرابا، و يضيف هناك أيضا المحلبية (الحليب و السكر) والتمر هندى". وفيما دخلت العصائر الأخرى مثل الفيمتو (مواد سكرية) على خط منافسة البيذان فى الكويت، وذلك وسط انتقادات من الأضرار الصحية للفيمتو، أبدعت مدينة "بوفاريك" فى إهداء الجزائريين منتوجين غذائيين ارتبط ذكرهما بشهر رمضان الفضيل، الأول هو حلوى "الزلابية" والثانى هو مشروب "الشاربات"، وبهذين المنتوجين تحوّلت المدينة الواقعة 40 كلم شرق العاصمة الجزائرية إلى محجّ للمواطنين من شتى أنحاء البلاد فى رمضان. و"الشاربات" هو خليط من عصير الليمون الطبيعى والماء وبعض البهارات الحلوة مثل "القرفة"، وهو عود له ريح طيبة يسحق ويمزج فى المشروب لحظة تحضيره ويضاف له ماء الزهر، وقد نجح بعض سكان بوفاريك (40 كلم شرق العاصمة) فى صناعة هذا المشروع، فى بيوتهم، لكن أحدا لم يكن يتوقّع أن ينال هذا المشروب شعبية وطنية ويقترن اسمه باسم المدينة التى وُلد فيها فبات اسمه "شاربات بوفاريك". وغدت "الشاربات" من أساسيات مائدة رمضان، بل أن عائلات تخلّت عن مشروبات شهيرة من الماركات العالمية، بسببالمنتوج المحلى "شاربات بوفاريك"، ويقولون أن هذا المشروب الطبيعى والمنعش لا يحتوى الغازات الضارة التى تحويها المشروبات الآنِف ذكرها. يصنع مشروب "الشاربات" فى البيوت وفق كيفية دقيقة تتمثل فى الليمون وماء الزهر والقرفة، وكان البعض يضيف إلى ذلك بعض الحليب حتى يعطيه نكهة خاصة، لكن تلك الكيفية الأصلية تُخلِّى عنها لأسباب تجارية بحتة، فالتاجر لا وقت لديه للعمل بتلك الكيفية التى تليق بكمية صغيرة غير موجهة للاستهلاك الواسع.