ما بين عشية وضحاها، تحولت مؤسسة القضاء فى مصر من مؤسسة يعلم القاصى والدانى أنها مؤسسة حصينة شامخة منيعة لا يجوز ولا يُقبل أبدًا من أحدٍ كائن من كان المساس أو العبث بها أو بأى من أركانها أوممثليها أو التعقيب على أى من الأحكام الصادرة منها أو المنظورة أمامها إلى مؤسسة مستباحة بكل ما تحمله تلك الكلمة من معانٍ وتفاسير. والداعى للعجب هو أن تلك الاستباحة والتى وصلت إلى حد تشكيك البعض فى نزاهة بعض الأحكام القضائية وتحديدًا تلك الأحكام التى صدرت مؤخرًا بحق أفراد تابعين بصورة أو بأخرى لجماعة الإخوان الإرهابية المحظورة لا تأتى فى الغالب إلا من دول تدعى على الدوام رفضها التام لمبدأ التدخل فى الشئون الداخلية لأى من الدول ذات السيادة ، أومن أشخاص لم يكونوا يتوانون حتى وقت قريب عن المناداة بضرورة العمل على دعم استقلال القضاء! والأدهى من كل ذلك بأن هذا الأمر لم يكن ليحدث بهذه الصورة الفجة قبل أن يفيق الشعب المصرى من غفلته الطويله ويقوم بثورتيه المجيدتين ثورتى الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو وكأن غاية هؤلاء المشككين أن يصوروا للعالم أن هاتين الثورتين قد قام بهما المصريون خصيصًا لاستباحة قضائهم العريق وليس للعمل على دعمه ودعم كافة مؤسسات الدولة الأخرى من أجل تحقيق التنمية والازدهار ومن أجل بلوغ الأهداف التى ثاروا من أجلها بالأساس ألا وهى تحقيق العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية على أرض الواقع! ويا للغرابة فإن المشككين فى نزاهة تلك الأحكام قد ذهب بهم غيهم إلى نعتها بالأحكام المسيسة وهم فى غيهم هذا قد أغفلوا عن عمد أو عن جهل أن تلك الأحكام ليست سوى إما أحكام غيابية لا يملك القاضى أمامها سوى الحكم بأقصى العقوبة المقررة قانونًا ، وإما أحكام حضورية صدرت بإجماع آراء أعضاء هيئة المحكمة ، وليس أدل من حماقة وبطلان إدعاءات هؤلاء المشككين الجهلاء هو مدلولات التفاصيل القانونية الكثيرة الواردة بأوراق تلك القضايا والتى لا يعلم هؤلاء عنها شيئًا ولا يدركون عقوباتها المقررة قانونًا ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يُعرف فى القانون بعقوبات الفاعل الأصلى وعقوبات المساهم الجنائى ، والمتفق ، والمحرض ، والمساعد ..الخ وكان من الأولى بهؤلاء أن يسألوا المختصين ليعلموا قبل أن يتجنوا بأنه ووفقًا للقانون فإن كل من تواجد فى مسارح الأحداث التى ارتكبت فيها تلك الجرائم بمثابة فاعل أصلى طالما كان له دور فى وقوع أحد تلك الجرائم خلافًا لأنهم لو كانوا من أهل العلم لأدركوا بأنه لا زال بإمكان المحكوم عليهم الطعن على تلك الأحكام أمام محكمة النقض والتى لها أن تؤيد الحكم أو تلغيه وتعيد المحاكمة مرة أخرى أمام دائرة جديدة، وليس معنى حديثى هذا أننى أرمى إلى أن القضاء فى مصر لا يحتاج إلى إصلاح فالقضاء مثله مثل كافة مؤسسات الدولة الأخرى بحاجة إلى إصلاح وتصحيح وتقويم وتطوير أيضًا ولكن ومع ذلك فإننى ومعى كل مصرى شريف نرفض رفضًا تامًا المساس أو التعرض بأى شكل من الأشكال لمؤسسة القضاء، فالقضاء وحده وبمعاونة كافة سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية قادر على تقويم ذاته وإصلاح ما به من قصور مع ضرورة أن نضع فى اعتبارنا جميعًا أنه وقبل أن نطالب القضاء بأن يقوِّم ذاته علينا أن ندرك عدة عوامل غاية الأهمية ألا وهى أولًا : لا يمكن القيام بأية إصلاح قضائيًا كان أو غيره فى أوقات الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية. فمؤدى تلك المحاولة لن ينتهى إلا بتدمير وإسقاط المؤسسة التى نرغب بإصلاحها، ثانيًا: عند البدء فى الإصلاح القضائى يجب أن تكون عملية الإصلاح غير مسيسة وأن تتم وفقًا لأجندة متوافق عليها من قبل جميع القوى الوطنية، ثالثًا: فإنه ومن الضرورى وقبل البدء فى الحديث عن الإصلاح القضائى يجب أولًا العمل على إصلاح العوامل المساعدة للقضاء، والتى تتمثل فى 1- إصلاح وتطوير وزارة الداخلية وبخاصة أجهزتها المسئولة عن مد القضاء "ممثلًا فى النيابة العامة" بالتحريات والأدلة..إلخ. 2- إصلاح وتطوير أقلام المحضرين وأمانات سر المحاكم وسكرتاريات النيابات والمحاكم ومكاتب الشهر العقارى، وأخيرًا فإننى أطالب جموع الشعب المصرى العظيم بالالتفاف حول قَضائه وقُضاته ومساندتهم والتكاتف من أجل التصدى لأى محاولة من الداخل أو الخارج للتدخل فى أى شأن من شئون السلطة القضائية.