عدوان 1956م صفحة مشرقة من تاريخ مصر الحديث، كما أنها شكلت من جانب الأعداء الثلاثة نموذجا صارخا للعدوان، ومثلت إدراكا من أعداء أمتنا العربية والإسلامية بأن مصر هى العقبة القاسية أمام طريق إخضاع هذه الأمة والنيل منها، ولكى ندرك معنى هذا نشير نحو أن العدوان الصهيونى وأحلام هذا الكيان الغاصب بدأت مبكرا جدا، فقد ظهر مشروع "دافيد روبينى" فى القرن السادس عشر الذى يدعو اليهود لغزو فلسطين وانتزاع أرضيها، بمساعدة ودعم يهود أوروبا، لكن المشروع لم يجد ترحيبا حينها، وظلت آمال الطغيان مستقرة فى النفوس حتى أن نابليون اللعين أعلن فى الصحف الرسمية عام 1799 عن دعوة يهود أفريقيا وآسيا لموافاة جيشه إلى مصر ليدخلوا معه "أورشليم" – لاحظ معى استخدامه عبارة أورشليم - لكن تحطمت آماله المغرورة على بوابة الشرق العتيدة مصر العريقة، فثار الشعب المصرى وعادت جيوش الطاغية تجر أذيال الخيبة، وهكذا ظلت مصر هى العائق الرئيس أمام أطماع الصهيونية، ولعل هذا يتضح بجلاء مع تصريح رئيس وزراء إسرائيل لدى توقيع مصر اتفاقية الجلاء بتاريخ 27-7-1954م من أن مثل هذه الاتفاقية بين مصر وإسرائيل تعنى .. " التخلى عن إسرائيل لتواجه قدرها ومصيرها "، وظلت وتيرة التصعيد ملتهبة بين الكيان المعتدى ومصر البلد العربى الأمين، ففى أول نوفمبر 1954، أعلنت ثورة الجزائر ضد الاستخراب الفرنسى، والتالى هو نص أنقله من كتاب صادر فى السبعينيات (مصر بعد العبور) أى منذ أكثر من ربع قرن يقول هذا النص الذى هو ثابت تاريخيا ( وفتحت مصر أبوابها على مصراعيها مرحبة بأحرار الجزائر، وقدمت لجيش التحرير الوطنى الجزائرى كافة المساعدات، واستقبلت المعسكرات المصرية ثوار الجزائر لتدريبهم .. حتى انطلق قادة فرنسا ينادون بأن القاهرة وليست الجزائر، هى المكان الذى يمكن أن تنتهى فيه ثورة الجزائر، (..) وفى أوائل عام 1956 استقبلت القاهرة جميع الزعماء الجزائريين الذين حكمت عليها فرنسا بالإعدام أو السجن، حيث كونوا "لجنة التحرير الوطنى"، وردا على ذلك قامت حكومة فرنسا بشن حملة كراهية ضخمة ضد مصر). وظل زعيم الكيان الغاصب "بن جوريون" يردد صادقا أن مصر تشكل الخطر الأكبر الذى يهدد كيان الدولة اليهودية، ويزعزع مستقبل إسرائيل، لذا التقت الإرادات العدوانية ممثلة فى إرادة بريطانيا التى اعتبرت قرار تأميم قناة السويس فى 26-7-1956م من أكبر الأزمات منذ الحرب الكورية، مع إرادة الكيان الصهيونى مع إرادة فرنسا، وتهيأت كافة بواعث العدوان الثلاثى عام 1956م. وبدأت الخطة الشريرة، والسيناريو المحبوك فى الساعة الرابعة والنصف مساء الاثنين 29-10-1956م، بالهجوم الغادر الإسرائيلي، فدخلت الوحدات المدرعة الباغية بسرعة إلى مراكز الحدود فى القطاع الجنوبي، وتم إسقاط 395 من القوات المظلية الإسرائيلية على ممر متلا، ثم طارت إلى إسرائيل وحدات من سلاح الطيران الفرنسى من التى كانت تخدم أغراض حلف شمال الأطلنطى، ومن قبرص قامت طائرات النقل الفرنسية بإسقاط الأسلحة والتعيينات للقوات اليهودية الغازية، وصدر الإنذار البريطانى الفرنسى فى 30-10-1956 بانسحاب كل من الطرفين المصرى والإسرائيلى مسافة عشرة أميال من القناة فى ظرف 12 ساعة وإلا ستحتل القوات البريطانية والفرنسية مدن القناة، ورفضت مصر القرار بالطبع، وبدأ العدوان الجوى المشترك بقوة 200 طائرة فرنسية وبريطانية، وتحركت قطع الأسطول لاستكمال خطة الغزو وكان الهدف هو الإسكندرية فى الخطة الأصلية لكن تغيرت الوجهة إلى بورسعيد، وكانت المعركة غير متكافئة فالغارات الجوية تقصف بعنف شديد بمعدل غارة كل ربع ساعة، واستطاعت قوات العدوان أن تحتل أجزاء من بورفؤاد وبورسعيد، واستطاعت جموع الشعب المصرى الصابرة خير الأجناد أن يبذلوا صورا رائعة من الصمود والتحدى وضروب المقاومة الباسلة، ووقفت السعودية موقفا مشرفا بقطع البترول عن المعتدين، وتدخلت روسيا بجدية بتوجيه إنذار للقوى المعتدية بالتدخل العسكرى السوفيتى، وتحول العدوان الثلاثى إلى أزمة دولية كادت تهدد بأزمة دولية، ومن الطريف أن إسرائيل كانت الأسرع فى الانسحاب متخلية بذلك عن حلفائها ووضعت فرنساوبريطانيا فى أسوأ وضع، ويذكرنا هذا بيهود بنى قريظة عندما أسرعوا بالتخلى عن جيش الأحزاب المعتدى فى غزوة الخندق، وشاركت أمريكا فى الضغط لتحقيق الانسحاب حتى يبزغ نجمها لقوة كونية لا تقهر إرادتها، وأذعنت فرنسا وبريطانية لقرار الأممالمتحدة المرسوم وأوقفوا العدوان اعتبارا من منتصف ليل 6-11-1956، وأعدت المقاومة الشعبية المصرية فى بورسعيد جحيما وأرقا متصلا للقوات المنهزمة سياسيا وعسكريا وهى تجر أذيال خيبتها، وغادر آخر جندى معتدى بورسعيد فى منتصف ليل 22 نوفمبر، لكن للآسف العميق انتزعت إسرائيل حق الملاحة البحرية والجوية عبر خليج العقبة، بهدف رئيس وهو تحطيم الحصار العربى الاقتصادي، لكن ظل حلم إسرائيل يحرك أحقادها وما ترسم وتدير خطتها حتى لحظتنا العربية الراهنة فهذا "موسى شاريت" يذيع تصريحا نشرته "جيروساليم" عام 1955.. إذ يقول : " إن إسرائيل، لن يكتب لها البقاء، ما لم تشن حربا وقائية على الدول العربية، وتعمل على مد حدودها داخل هذه الدول، حتى تضمن سلامتها، وحتى تحقق الحلم الذى طالما راود فلاسفة الصهاينة .. ألا وهو إقامة إمبراطورية إسرائيلية، ممتدة الأرجاء، تفرض سلطانها قويا يخشاه الجميع"، وطالت وتطول دول الجوار من هذا الكيان السام أهوال وأهوال. ولعل صورة مقاومة مصر للعدوان الثلاثى تلك الصورة المشرقة تبدو متوارية أمام لحظة تاريخية مؤسفة نحياها الآن، لكننى استعين لتأخذ هذه الصورة الرائعة حقها من الظهور بحيث لا تتوارى أبدا إذ أنها وأمثالها من الصور المشرقة أمل النهوض وباعث التكوين من جديد، وإذ أنها تهدف لعكس قصد عدونا لتغييب مصر من حلقة الصراع، حتى يسهل عليه إتمام المهمة التى صرح بها أحد قادة الأعداء عام 1955م كما أشرنا منذ سطور قليلة، أقول أستعين بمقولة الكاتب "مصطفى الرزاز" : "المصرى مسالم، إنسانى، متأمل، صبور، يتفاعل مع منحة الطبيعة: النيل والأرض المنبسطة (..) ومن آن لآخر أعمل الغزاة سلوك الاعتداء والنهب والإذلال لسكان مصر الآمنين المسالمين، ولكن مصر أثبتت أنها مقبرة الغزاة، إذ تتجمع إرادة كل المصريين على تحرير ترابهم بكل ما يملكون، فقد خاض جيش مصر الباسل وشعبها ذو الإرادة الحديدية حروبا بإصرار لا يلين ضد الغزاة عبر العصور". كما أستعين بوصف الكاتب "محمد الشافعى" أبطال المقاومة المصرية الشعبية بأنهم ( العباقرة البسطاء والغلابة الذين حفروا بصمات العطاء الوطنى على كل خلايا الوطن، فهم الرجال الذين (صدقوا ما عاهدوا الله عليه)، ويتابع الكاتب أقواله : "وهؤلاء الأبطال من (بسطاء المظهر) و(عظماء الجوهر) يمتلئ وجدانهم بالرضا والقناعة وأنهم لم يفعلوا إلا (الواجب)، (..) ورفضوا أن يستغلوا بطولاتهم أو يتاجروا بها فهم لا يريدون (جزاء ولا شكورا)، (..) وعندما نلقى الضوء على تلك النماذج النبيلة من أبطالنا البسطاء، (..) فإننا نقدم (القدوة) فى أبهى صورها ونقدم (القيمة الحقيقية)، (..) وذلك لأن هؤلاء البسطاء هم (النموذج الأمثل) للقدوة الشريفة والنبيلة و (المستطاعة) (..) تقدم لكل إنسان مهما كان موقعه أو موضعه (روشتة العطاء الوطني) وطريق التميز والتفرد بالعطاء وليس بالأخذ وبالحب وليس بالنهب"، حياك الله أيها الكاتب الأريب. * عضو اتحاد كتاب مصر