موقف لا أنساه حدث معى أثناء دراسة الدكتوراه بجامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس بأمريكا. فتاة دون العشرين استوقفتنى ابتسامتها البسيطة الجميلة والبادج الذى تحمله، وقد كتبت عليه كلمة "متطوع" مع شعار المستشفى الذى أعمل به. حدث ذلك اليوم عند نهاية يوم العمل الرسمى، وأثناء انصرافى عائدًا إلى البيت". سألتها: أرى فى بادجك كلمة متطوع، فيم تتطوعين أجابت بابتسامتها التى لم تفارقها طوال الحديث: أنا متطوعة فى وحدة الاستقبال فى المستشفى - هل أنت طالبة هنا فى الجامعة؟ - نعم - ماذا تدرسين؟ - بيولوجى لأنى سألتحق بدراسة الطب - وهل لهذا علاقة بتطوعك للعمل فى مستشفى الجامعة؟ - كلا - وهل لهذا العمل التطوعى أى مقابل؟ نظرت إلى فى دهشة وكأنها لم تتوقع السؤال ثم قالت: - مقابل.. مع تطوع.. كلمتان لا تتفقان.. كيف يكون العمل تطوعى اذا كان بمقابل - لكنك مشغولة بالتأكيد فى دراستك فكيف تجدين الوقت للتطوع؟ - فى الحقيقة الأمر أصعب قليلا فى وقت الدراسة عن وقت الإجازات.. فى الإجازة أقضى معظم وقتى فى المستشفى، لكن الآن ومع المحاضرات والكورسات والاستذكار بالكاد أجد ثلاث أو أربع ساعات يوميًا لعملى التطوعى. - وما نوع العمل التطوعى الذى تقومين به فى المستشفى؟ - عمل بسيط.. أرتب غرف الكشف وأفرش ملاءات الأسرة. قالتها بابتسامتها العريضة. لوهلة أدهشنى ما قالت.. ولم تطل دهشتى فقد كان لزامًا على أن أتركها عند مفترق أحد الطرق، ومضيت يجتاحنى ذلك الشعور الغريب بالتقدير والاحترام لهذه الفتاة الصغير. حوارها بالكامل يستوقفنى تقديرًا، ولكن أعظم ما يستوقفنى فيه نقطتان. - الأولى هى أن الفتاة المشغولة فى دراستها حتى النخاع تجاهد لتقتطع من وقتها ساعات لعملها التطوعى، الذى تؤديه بلا أى مقابل، وليست الفتاة استثناء، فالعمل التطوعى عصب مهم للحياة فى المجتمع الأمريكى، إحدى سكرتارية القسم لدينا مشغولة حتى الثمالة فهى إضافة إلى عملها كسكرتيرة منسقة أبحاث أيضا ومشرفة على المعمل.. تعمل حتى فى ساعة الغداء، ورغم ذلك فهى نشيطة بشكل محموم فى العمل التطوعى وجمع التبرعات لمرضى سرطان الدم.. أقول هذا لملايين العاطلين فى بلادنا سواء الجالسين على المقاهى أو فى غرف الشات أو هؤلاء الذين يعملون بضع ساعات يوميا ثم يستشعرون أنهم يحملون الجبال على اكتافهم فلا تراهم الا والضيق يتقافز من وجوههم وإحساسهم بالإرهاق والضجر لا ينتهى.. لا يجد احدهم ساعة لعمل الخير ولكنه يجد الساعات للمقهى أو متابعة فتيات الفيديو كليب على شاشات الفضائيات - اما عن النقطة الثانية والتى استوقفتنى فى حوارى مع الفتاة فهى نوعية عملها التطوعى.. الفتاة مشروع طبيبة.. ورغم ذلك تؤدى نوعية من العمل التطوعى يظنه أى إنسان حقير " عمل حقير".. ولا يوجد فى العمل شىء حقير.. الحقارة حقارة تفكير.. الفتاة لا تخجل أن تقول ذلك.. بل تذكره بسعادة وابتسامة عريضة وكأنها تفختر بذلك.. طبيبة الغد تفخر بأنها ترتب غرف المرضى وتفرش لهم الملاءات.. تذكرت أحد المستشفيات فى بلادنا، حيث كان عامل النظافة يسخّر مرافقى المرضى لأعمال التنظيف بالقسم، بينما هو منشغل بالبوفيه الذى أقامه فى القسم.. نحن نخجل حتى من أن يرانا الآخرون ننظف ماله علاقة بذواتنا.. كأن ننظف مثلا سلم المنزل أو أمام البيت.. العلة فى مجتمعاتنا هى حالة الوهن والكساح النفسى الذى أصاب الجميع.. المجتمع المدنى قبل الحكومات.. والكل مغرم بإلقاء اللوم على الآخر. نحتاج إلى هزة عنيفة لنستفيق وننظر كيف يتصرف العالم المتحضر. وتذكرت على الفور حديث النبى الكريم حين كان يقوم مع أصحابه بشوى شاة للطعام، وقام كل واحد منهم باختيار العمل الذى سيقوم به، وانتظر الرسول الكريم حتى النهاية ولم يفرض اختياره من البداية، ثم قال فى تواضع " وأنا على جمع الحطب" وهو أكثر الأعمال تواضعا فى هذا الموقف، إذ أن جمع الحطب هو المهمة التى توكل عادة للصبيان الصغار على حين يقوم الكبار بذبح الشاة أو شويها. لكن النبى يرسم صورة لتواضع النفس العظيمة. فأين نحن من أخلاق الرسول الكريم؟ وأين نحن من أخلاقيات الأمم المتحضرة؟