نقلا عن اليومى.. يعتبر عصر الخديو إسماعيل إشراقة لشمس التطور المدنى والمعمارى حيث ظهرت فيه الملامح المدنية للقاهرة، فكانت العمارة هى إحدى سمات الرقى المدنى، إذ شرع الخديو يخطط لتطوير العاصمة على النمط الأوروبى المتمثل فى الميادين الفسيحة والشوارع الواسعة والقصور الباذخة والمبانى الفخمة، ليشيد مثلها على ضفاف النيل، علاوة على إقامة حدائق غنية بالأشجار وأنواع النخيل والنباتات النادرة، وكانت أساليب العمارة فى ذلك الوقت متنوعة، فمنها النمط التركى والألبانى والروسى حتى لاح فى نهاية الأمر نوع من الهجين المعمارى فى مصر مثل عمارة الباروك وعمارة إستانبول. ففى عام 1872 اتخذ الخديو قصر عابدين مقرا للحكم، نسبة إلى «عابدين بك» أحد القادة العسكريين فى عهد محمد على باشا الذى كان يمتلك قصرا صغيرا فى مكان القصر الحالى فاشتراه إسماعيل من أرملته وهدمه وضم إليه أراضى واسعة ثم شرع فى تشييد هذا القصر، وكان من أبرز فنون التخطيط لظهور شوارع القاهرة فى حلتها الجديدة إنشاء شارع يربط بين قصر الحكم والعتبة الخضراء. اللافت للانتباه أن الخديو إسماعيل سافر إلى باريس وتجول فى شوارعها فأعجبه شارع بديع اسمه ريفولى فسأل الخديو عن المهندس الذى قام بتخطيطه وبنائه، وهكذا جرى اللقاء بين «هوسمان» المهندس الفرنسى وخديو مصر، حيث طلب منه الأخير بناء شارع فى القاهرة مطابق لشارع ريفولى بباريس، وسرعان ما شرع هوسمان بشق هذا الشارع الجديد بداية من قصر عابدين حتى العتبة الخضراء فى عام 1875 بعرض 20 مترا، وأطلق عليه الخديو شارع محمد على نسبة إلى جده لأبيه. المثير أن المهندس الفرنسى اضطر إلى هدم بيوت ومبان كثيرة اعترضت مسار الشارع الجديد، إذ كانت هناك مقابر ترب المناصرة من ناحية العتبة الخضراء، فأمر هوسمان بإزالتها بعد أن جمع رفات الموتى ليدفنها فى حفرة كبيرة، حيث بنى فوقها مسجدا أطلق عليه «مسجد العظام». أما أهم ما يميز الشارع من الناحية المعمارية فكانت العقود «البواكى» المقامة على جانبيه، كى يسير فيها الموكب الملكى والمشاة لتقيهم من قيظ شمس الصيف وغزارة أمطار الشتاء، وقد وُضع فى مقدمة الشارع تمثال لمحمد على باشا يمتطى حصانه، وفيما بعد تم نقل هذا التمثال إلى ميدان المنشية بالإسكندرية. اللافت للانتباه أن السلطات منعت بناء المنازل على جانبى الشارع حتى عام 1912، فلما زال المنع شيدت بيوت صغيرة فوق البواكى، وكان من أوائل سكان الشارع شخص يدعى حسب الله يعمل بالفرقة الموسيقية للجيش المصرى، وبعد أن ترك الخدمة فى القصر سكن شارع محمد على وأسس بعدها «فرقة حسب الله» التى انتقل صيتها من قرن إلى آخر، وقد ضمت الفرقة عازفين وموسيقيين وراقصات مثل سنية كسارة وزوبة الكلوباتية وأطلق عليها اسمه وأصبحت تلبى طلبات وحفلات المهرجانات والنشاطات الاجتماعية، وحفلات الزواج والطهور، فكانت أول فرقة موسيقية نحاسية مصرية، بعد ذلك بدأت الكثير من الفرق الفنية الأخرى تنطلق من هذا الشارع نفسه، لتقدم الأعمال الفنية، وهكذا احتضن شارع محمد على أهل الفن سنوات طويلة. ورواد هذا الشارع وصلت شهرتهم إلى أنحاء الوطن العربى، حيث كان الشارع سببا فى انطلاقهم وشهرتهم، وفى عام 1914 اشترى مصطفى بك رضا منزلا صغيرا فى الشارع وأسس فيه معهد الموسيقى العربية وعقدت أول جمعية عمومية لأعضائه وتم انتخاب أول مجلس إدارة، وفى 26 ديسمبر 1926 انتقل المعهد إلى رمسيس وافتتحه الملك فؤاد الأول وغير اسمه إلى دار الموسيقى العربية. من الطريف أن الشارع صار مأوى للراقصات المحترفات ومقرا للفنانين مثل نعيمة عاكف وعائلة الحلو كما تردد عليه صالح عبدالحى وكارم محمود ومحمد عبدالمطلب ومحمد الكحلاوى ومحمد العزبى وشفيق جلال وإسماعيل ياسين وفيفى عبده، وعبدالحليم حافظ، ولوسى، وسهير زكى، ولم يقتصر الشارع على الفن فحسب، بل ضم الشارع متحف الفن الإسلامى، متمثلا فى أروع المشكاوات والقناديل والسجاد والعملات واللوحات والنقوش على الخشب والزجاج والنحاس والفضة، الذى يرجع تأسيسه إلى أول القرن الماضى وافتتح عام 1903 ليكون أكبر مجمع للآثار الإسلامية الرائعة والنادرة التى تشمل العصور الإسلامية المختلفة، وبعد عام 1958 أطلق عليه العامة «شارع الحب» نظرا لتصوير فيلم بالاسم ذاته فى أروقة الشارع، وهو الذى لعب بطولته عبدالحليم حافظ وقام بتأليفه يوسف السباعى وأخرجه عز الدين ذو الفقار. لكن سرعان ما دارت الأيام وتبدلت الأحوال وتغيرت صورة الشارع من رمز للفن والحب إلى بؤرة للصخب والضجيج.