تفتقد مصر الصحية لتحديد دور الدولة والقطاع الخاص فى تقديم الخدمة الصحية، وهى بحاجة لحسم السؤال التالى والذى عليه ستبنى استراتيجيتها الصحية، هل الدولة بالأساس هى المسئول عن حماية وكفالة حق المواطن فى الحصول على خدمة صحية متكاملة؟، أم كما هو الواقع من يملك المال أو السلطة يملك الحق فى العلاج والحصول على معاملة آدمية داخل المستشفيات الخاصة. والدولة وهى الآن تتحدث عن نظام تأمين صحى شامل قائم على فلسفة فصل التمويل عن تقديم الخدمة، معتبرة أن مشكلتها الحقيقية فى التمويل فقط، عليها أن تدرك أن أولويات العمل الوطنى للقطاع الصحى ترتكز على إنسانية هذا القطاع وطابعه الخدمى، ومن ثم فإنه عند رسم السياسة الصحية العامة للدولة فالمستشفيات التابعة للدولة، المملوكة للمواطن هى الأساس فى تقديم الخدمة الصحية بوصفها البنية الوطنية المتاحة لكل فئات الشعب، وتحقيق هذا التوجه ليس باليسير فلو نظرنا إلى معدل الإنفاق الصحى بمصر يتضح أن المواطن يتحمل أكثر من ثلثى حجم الإنفاق الصحى فيما تتحمل الدولة الثلث الباقى مع ثبات مؤشر آخر وهو أن جودة الخدمة فى القطاع الخاص أجود وأيسر من الناحية الإجرائية والجهد المبذول. ومن الإشكاليات المزعجة فى مصر أن مستشفيات الحكومية لا تعانى من فقدان ثقة المواطن فقط ومن ثم تفضيله للمستشفيات الخاصة حتى وإن كان ذلك سيحمله تكلفة مرتفعة، بل تعدى فقدان الثقة إلى المؤسسات الحكومية نفسها والنقابات المهنية، ففى السابق كان العلاج خارج المستشفيات الدولة يشمل بعض القطاعات وكبار الموظفين، أما الآن فى ظل الامكانات الضعيفة للهيئة القومية للتأمين الصحى والتى من المفترض أنها تقدم خدمة طبية لأكثر من 47 مليون مواطن، وميزانيتها لا تتجاوز ال5 مليارات جنيه سنويا، فإن مؤسسات الدولة فى معظمها تتعامل مع مستشفيات القطاع الخاص فى الحصول على الخدمة العلاجية. أما بالنسبة للنقابات وهو المؤشر الأخطر بالنسبة لتآكل المنظومة الحكومية، فدخول نقابة المعلمين فى منظومة التأمين الصحى الخاص وسبقها فى ذلك المحامين والصحفيين يمثل وضعا خطيرا، فلو نظرنا إلى أن عدد المعلمين الذى يتجاوز المليون والنصف معلم ويمثل ثلث القوة العاملة فى مصر، فإننا أمام هرم صحى مقلوب، ومشهد يؤكد تأكل دور الدولة تماما، إن شهادة وفاة الدولة المباركية لم تحرر فى مكاتب الصحة كما هو المعتاد، ولم تكتب وتعتمد فى ميدان التحرير فقط، بل كتبها من قبل لجوء نقابة الأطباء وباقى نقابات المهن الطبية لتدشين برامجها العلاجية خارج مؤسسات الدولة الطبية، ولعل هذا المؤشر يعكس مدى الخلل والفساد والتآمر الذى أجهض أحلام المصريين فى الحصول على أبسط حق من حقوق الإنسان وهو الحق فى الصحة والحياة، فالطبيب المصرى المسكين لم يهرب من مستشفيات الدولة للعمل بالخارج أو فى القطاع الخاص فقط، بل لم يأمن على نفسه أن يعالج فى المكان الذى كلف هو شخصيا وأقسم اليمين على علاج المواطن فيه، وذهب يبحث عنه خارج منظومة الدولة. إن ما نشهده من واقع صحى مؤلم إنما هو نتيجة لرؤية نظام مبارك للخدمة الصحية بوصفها سلعة تخضع للسوق وقوى العرض والطلب، وعلى الدولة أن تنسحب من هذا المجال وتفسح الطريق أمام القطاع الخاص الذى يمثل الآن المنظومة الصحية الحقيقية القادرة على تلبية احتياجات المواطن، وبهذا يصبح اللغط الدائر منذ سنوات حول خصخصة القطاع العام مجرد هراء، فالقطاع العام تم تجميده وتخريبة والخدمات الصحية تم خصخصتها بالفعل. ولعل أكثر المؤشرات فسادا هو انحياز الدولة المباركية – والتى لم يتغير من نظامها شيئا حتى الآن – للأغنياء على حساب الفقراء وللأقوياء على حساب الضعفاء فى ملف العلاج.. فمؤسسات الدولة التى يتقاضى العاملون بها دخولا مرتفعة، يحصلون أيضا على نظام علاجى مدعم بأكبر المستشفيات الخاصة بمصر، وأحيانا يحصلون على بدل نقدى للعلاج بالرغم من تحمل الدولة لكل تكلفة علاجهم من الكشف البسيط إلى زراعة الكبد – وهذا مؤشر من مؤشرات الفساد التى يجب أن تحارب-، أما العاملون البسطاء ومنهم الأطباء والمعلمون يتم علاجهم وفق معايير الهيئة العامة للتأمين الصحى ذات الخدمة الطبية المتواضعة، وبالنسبة للفقراء فهم يتركون يواجهون مصيرهم المحتوم وهو الموت عمدا لعدم امتلاكهم نفقات العلاج بالمؤسسات الخاصة وتخلى الدولة عنهم، عار على الدولة المصرية والثورة المصرية الصمت على تلك الجريمة، ليس من حق أحد أن يصدر قواعدا منافية لحقوق الإنسان وعدالة الأدينان تقضى بعلاج ذوى الحكم والسلطان وتترك المواطن العدمان طريد المرض والنسيان. إن حسم قضية الصحة فى مصر يتطلب خطوات ثورية تمكن الدومة من تطبيق التزامها بكفالة حق المواطن فى الصحة، وذلك بتدشين مجموعة من المستشفيات والمراكز المتخصصة الحديثة – وهى موجودة بالفعل- واستصدار تشريع يقضى بمنع تعاقد الجهات الحكومية مع المستشفيات الخاصة والعلاج داخل مستشفيات الدولة ويخضع لذلك الجميع بلا استثناء، ونجاح هذه الخطوة سيمكن مستشفيات الدولة من التطور والنمو واكتساب السمعة ومهارات التواصل وتأدية الخدمة بمعايير جودة راقية وسينعكس ذلك بدوره على ثقة المواطن فى مستشفيات الدولة بوصفها الحصن الأمين الذى سيحافظ على حياته ويحميه من تقلبات الدهر وآلام المرض، وتشريع آخر يقضى بأولوية الفقراء فى الحصول على الحق فى العلاج بوصفهم الفئة الأولى بالرعاية. إن قضية الصحة فى مصر ليست قضية نقص موارد أو خلل فى الإدارة فقط، إنما هى قضية وطن هان على حكامه وغابت عنه العدالة الاجتماعية والحق فى الحياة والكرامة الإنسانية، وقضية نظام حكم ظالم لم يحاكم حتى الآن على جرائمه الحقيقية تجاه أبناء هذا الشعب، هذا النظام الذى بنى منظومة علاجية وخدمية متكاملة تحميه، فيما يمكن أن نطلق عليه بناء جماعات وظيفية تمثله وتحمى مصالحه كما قال الدكتور عبد الوهاب المسيرى، والذى لمفارقة القدر تركه نظام مبارك عرضة للمرض ورفض علاجه على نفقة الدولة، ولم يمنحها إلا لمن يرضى عنهم وتلك جريمة أخرى.