لم تكن ترى نهاية الطريق، ولو كانت رأتها منذ البداية ما خطت الخطوة الأولى، الآن تجلس لتكتب أهم خطاب فى حياتها، الغرفة مظلمة إلا من ضوء شمعة تُحتضر على حافة المنضدة التى تجلس إليها، الليل بالخارج يلاقى ليلة عسيرة من الأمطار، وومضات البرق تهدد عرش ظلمته الأبدي، وزمجرة الرياح تلاقى هوى فى نفسها المتعبة،وبين لحظة وأخرى تتوقف يدها عن الكتابة لا لشىء سوى لتتأمل باهتمام شديد اللهب المحتضر وتستمع إلى زئير الرعد بالخارج. أنهت خطابها الطويل بكلمة "سامحينى يا أمي"، وبدأت تجتر ذكرياتها التى - لدهشتها - لم تعد مؤلمة كالأيام الماضية، صارت كأنها ذكريات شخص آخر وهى تقيّم أحداثها وتحكم على أشخاصها.. آه .. كم هى الآن صافية الذهن! كان كالحلم إذ يخرج من السراب إلى السراب.. الحب.. تلك الضالة التى يفتش عنها الإنسان من المهد إلى اللحد.. قابلته فى العمل فى أول يوم لها.. مفعمة بالأمل لاقته.. ولاقت فى عينيه ضالتها.. مفعمة بالحياة كانت لكنها لم تقنع بالحياة.. كانت تطمع فى الدخول للجنة.. تتداعى الآن الرؤى على ذهنها وهى توقع معه صكَّ دخولها الجنة ولم تكن تدرى وقتها أنها توقع صك نهايتها.. وقعت على عقد زواجهما العرفي.. تتداعى الآن الرؤى بسرعة أكبر وذهنها يزداد صفاءً إنكاره لها تهربه، مصارحتها لها أنه لن يرتبط بفتاة سلمت نفسها عند أول إغراء، ترى الآن بوضوح الأحداث كما لو كانت تشاهد شاشة سينما وهى قابعة فى الظلام بعد أن لفظت الشمعة الوحيدة أخر أشعتها.. كم أن هذه الحياة منظومة رائعة لقدرة حكيمة وعظيمة تقف وراء كل صغيرة وكبيرة! عقاب السماء لم يتأخر.. مرضه الخبيث، مكوثه بالمشفى بلا أمل فى حياة كما سلبها هو الأمل والحياة.. اليومَ بعث برسالة إليها يريد أن تغفر له يريد أن يصلح ما أفسده لكنه أغفل أنها لم تعد هى نفسها، لقد فقدت حتى القدرة على الحياة، صوت الرعد يبعد وكأنه قادم من حلم عميق.. تسمع الآن نبضات قلبها كما سمعتها فى أول لقاء بينهما.. الموت والحياة.. من قال أنهما لفظتان متضادتان.. إنهما مترادفتان كأكثر ما يكون الترادف تخرج الحياة من الموت وأحيانا يكون الموت حياة لحياة ميتة بلا قيمة أو أمل نبضات قلبها الآن صار أعلى صوت من الرعد المزمجر بالخارج والظلام يشتد حلكة.. سامحينى يا أمي.. أنا لم انتحر أنا فقط نفذت ما استحق.. أنا أداة العدالة، سامحينى. الظلمة تزداد وكأنها صارت فى بئر عميقة الكلمات صارت ثقيلة وعيها يتلاشى شيئًا فشيئًا ولم تنس أن تلقى نظرة أخيرة على بقايا الشمعة التى انتهى ضوءها وصارت أشلاءً.. يبدو أنه حان الوقت.