كان التهديد الإثيوبى بقطع مياه النيل عن مصر، تهديدًا تاريخيًا يظهر عند كل خلاف بين البلدين ويذكر ابن تغرى بردى أن إمبراطور الحبشة أرسل وفدًا إلى السلطان الظاهر بيبرس يهدده بقطع النيل عن مصر إذا أهان أو تعدى على بطريرك الأقباط الذى كان الرئيس الروحى للكنيستين المصرية والحبشية وبالطبع لم يأخذ السلطان بيبرس هذا التهديد بجدية، إضافة إلى أنه لم يكن ينوى اضطهاد الأقباط والمساس برئاستهم الدينية، وعاد هذا التهديد فى عصر الخديو إسماعيل، عندما حاول غزو الحبشة وقد فشل الغزو. وعندما قررت مصر إنشاء السد العالى فى الخمسينيات وسحبت الولاياتالمتحدة عرضها بتمويله ذلك السحب الذى أدى إلى تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثى ودخول الاتحاد السوفيتى بديلاً للولايات المتحدة فى مساعدة مصر فى بناء السد وضعت الولاياتالمتحدة مجموعة من خطط المشروعات المائية والسدود لتنفذ فى إثيوبيا بحيث تجعل سد مصر العالى بلا قيمة ولا تأثير وشملت هذه الخطط إنشاء 33 مشروعًا مائيًا على النيل الأزرق لتحجيم أو منع مياه الفيضان من الوصول إلى بحيرة ناصر أمام السد العالى، ولكن هذه المشروعات لم يكتب لها أن تنفذ نظرًا لقصور التكنولوجيا اللازمة عمليًا ونظرًا لانحياز إثيوبيا إلى مصر سياسيًا فى عصر الإمبراطور "هيلاسلاسى" الذى ربطته صداقة عميقة بجمال عبد الناصر ومصالح حيوية فى زعامة القارة الأفريقية، وظلت دراسات هذه المشروعات حبيسة الأدراج حتى تسعينيات القرن الماضى حين بدأت السياسة الأمريكية خطتها الشاملة لتقسيم المنطقة والسيطرة عليها وتأمين حليفتها الرئيسية فيها "إسرائيل" فكان لابد من تفكيك المنطقة بدءًا بالعراق فالسودان وهنا ظهرت أهمية إثيوبيا لتحقيق أهداف المشروع الأمريكى فى القرن الأفريقى فبدأت أمريكا بتقوية الجيش الإثيوبى عسكريًا بالسلاح والتدريب للصمود أمام إريتريا واستغلاله بعد ذلك فى الصومال وساعدها إهمال السياسة المصرية لأفريقيا عامة وإثيوبيا خاصة فى عصر مبارك، وتهميش علاقات مصر بدول حوض النيل نتيجة لعناد غبى من الرئاسة المصرية فى ذلك الوقت، واستعانت الولاياتالمتحدة بثلاث دول أوروبية لتحديث دراسات المشروعات المائية فى إثيوبيا التى وضعت فى الخمسينيات هى هولندا والنرويج وإيطاليا. وأصبحت هذه الدراسات جاهزة للتنفيذ منذ أواخر تسعينيات القرن الماضى، ويعتبر السد الذى أطلقت عليه إثيوبيا "سد النهضة" هو المشروع الأكبر فى مجموعة المنشآت المائية التى تم تنفيذ مجموعة منها أقل كثيرًا فى القدرة على نهرى السوباط وعطبرة وكانت هذه المنشآت الصغيرة غير مؤثرة على حصة مصر المائية، ولكن سد النهضة على النيل الأزرق يشكل خطورة كبرى على حصة مصر، وقبل ثورة يناير كانت تصميمات هذا السد تراعى حصة مصر وتأثيرها لا يضر بتدفق مياه الفيضان الموسمية بصورة كبيرة؛ ولكن الاضطرابات الداخلية خلال السنوات الثلاث الماضية شجعت إثيوبيا بتأييد من الولاياتالمتحدة على أن تحول مشروعها للحد الأقصى بحيث يقوم بتخزين 74 مليار متر مكعب من المياه أمامه ويولد ما يقرب من 6000 ميجاوات كهرباء سنويًا ما يجعل إثيوبيا دولة متحكمة فى المياه والطاقة فى المنطقة كلها ويضع مصر التى تعانى فعلاً فقرًا مائيًا فى موقف خطير، ويجبرها على التبعية فى غذائها وطاقتها لدولة تسيطر عليها الولاياتالمتحدة، ومن خلال هذه السيطرة يتم إخضاع مصر وتنفيذ المشروع الأمريكى الذى تقف مصر كدولة مركزية موحدة لها جيش قوى "الثالث عشر على العالم" عقبة أمام تنفيذه، ولذلك كانت إعادة الدفء للعلاقات المصرية الروسية قضية مصير ووجود لتجد مصر حليفًا قوياً، حين يفرض عليها النضال ضد مشروع سياسى متكامل لقوة عظمى تريد إذلال مصر وإخضاعها، وتملك مصر أكثر من سيناريو لإفشال الخطة الأمريكية الإثيوبية، فعلينا أن نعيد توثيق علاقاتنا بدول حوض النيل وإبعادها عن تأييد الخطط الأمريكية الأثيوبية خاصة أن منشآت أثيوبيا المائية لا تفيد أيًا منها وأن ننشئ تحالفًا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا مع دولة إريتريا "العدو التقليدى لإثيوبيا" ومنفذها الوحيد إلى البحر ولنا معها تاريخ مشترك بمساعدة ثوارها ضد الاحتلال الإثيوبى، كما أن علينا أن نكون أكثر حزمًا مع حكومة شمال السودان التى بدأت تتخلى عن موقفها المؤيد لمصر بضغوط أمريكية. وليس هناك حل لهذه المشكلة إذا صممت إثيوبيا على عنادها، وتجاهلت ما يسببه مشروعها من أضرار إلى الدخول فى معركة حقيقية قد تصل إلى استخدام القوة المسلحة فالمسألة مسألة حياة أو موت بالنسبة لتسعين مليون مصرى، وعلى إثيوبيا أن تدرك أن الدعم الأمريكى لهم لا يقصد به صالح بلادهم بقدر ما يقصد به الإضرار بمصر، وفقدان إثيوبيا لعلاقتها بدولة أفريقية مركزية مثل مصر هى الأولى بالرعاية والأبقى لإثيوبيا بالجغرافيا والتاريخ والمصالح الحقيقية للتطور والتنمية.