نقلاً عن اليومى.. من حسن الطالع أن المودة ربطت بين الناقد الكبير الراحل رجاء النقاش وبينى، فقد جمعتنا أواصر محبة وعمل كبير فى السنوات الأخيرة من عُمر هذا الرجل النادر المثال فى حياتنا الثقافية والفنية والصحفية. منذ لقائنا للمرة الأولى فى مساء يوم من أيام 2004 وحتى رحيله فى 8 فبراير 2008، والتعاون بيننا فى العمل يشهد نجاحات متواصلة، فقد اتفقت معه على أن يكتب لنا مقالا شهريا فى مجلة «دبى الثقافية» التى شاركت فى تأسيسها بدبى وأصبحت أول مدير تحرير لها، حيث رحب رئيس التحرير الشاعر والإعلامى الإماراتى الكبير سيف المرى بدعوة رجاء النقاش للانضمام إلى أسرة كتاب المجلة الدائمين قائلا لى: «الأستاذ رجاء مكسب كبير للمجلة»، وهكذا رتب لنا موعدا الأستاذ سعيد شعيب - شفاه الله - مراسل المجلة آنذاك، وتم الاتفاق، وزادت أواصر المودة بيننا، وظللت طوال أربعة أعوام كاملة حريصا على مقابلته والإنصات إليه كلما عدت إلى بلدى فى زيارة، أو جمعتنا الظروف فى احتفال بدبى أو ندوة فى الكويت، حيث شاركنا مرة فى ندوة نظمتها مجلة العربى الكويتية. حسب علمى، حقق رجاء النقاش إنجازا لم يسبقه إليه أحد، وهو أن يصبح ناقدا أدبيا وفنيا فى وقت واحد، فلك أن تعلم - على سبيل المثال - أنه كتب مقدمة الديوان الأول للشاعر الرائد أحمد عبدالمعطى حجازى - سقى الله أيامه - وهو ديوان «مدينة بلا قلب/ عام 1959»، مشجعا ومؤيدا الشعر الجديد فى مصر، وفى ذلك العام نفسه، كان رجاء أول صحفى مصرى يكتب مبشرا بالمطربة الجديدة وردة الجزائرية، قبل أن تهبط أرض القاهرة، إذ استمع إليها فى دمشق، وعاد إلى عاصمة الفن ليسجل إعجابه بها وحماسه لها فى صفحتين من مجلة «صباح الخير» على ما أذكر، حيث كتب عنوان الموضوع من كلمة واحدة فقط وهى «وردة»! تمتع الأستاذ رجاء بمقدرة استثنائية على الغوص فى بحر الأدب والفن واصطياد اللآلئ والجواهر بحصافة مذهلة، فلعلك تعلم أنه أول من كتب عن الشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش، وكان مغمورًا فى ذلك الوقت لا يعرفه أحد، فلما أصدر عنه كتابًا شارحًا صار المرجع الأهم لكل من يريد أن يتعرف على درويش الشاعر والإنسان، وقد أصدر النقاش هذا الكتاب عام 1968 وعنوانه «محمود درويش.. شاعر الأرض المحتلة»، وحين أقيم احتفال برجاء قبل رحيله بأسابيع قليلة «رجاء مولود فى عام 1934» كتب درويش رسالة بليغة يحيى فيها الرجل الذى اكتشفه وقدمه إلى العالم كله، وكان عنوان الرسالة موحيا، وهو «كنتَ قد ساعدتَ جناحى على الطيران»! بالنسبة لى كان الأستاذ رجاء مستودع الحكايات والقصص عن عالم الأدب والفن والصحافة والسياسة، فهو حكاء بارع، فكنت أجلس إليه بالساعات أسأل وأستفسر وألح، وهو بكرمه المعتاد يجيب بصبر وهدوء شارحا وموضحا وناقدا، وكم كانت سعادتى حين يدعونا إلى بيته ونظل فى حضرته أكثر من خمس ساعات نقضيها فى رحاب الأدب والفن والتاريخ، ولزوجته الدكتورة هانيا الفضل الكبير فى إعداد الأجواء المناسبة لهذه الجلسات الممتعة. تبقى كلمة أخيرة ينبغى قولها فى حق هذا الرجل الاستثنائى، وهو إتقانه للعمل والانكباب عليه، وأذكر كيف كان يحرص أشد الحرص على أن يوافى دبى الثقافية بمقالاته ودراساته المتنوعة والمتميزة، وكان يرسلها لى بالفاكس، ويطلبنى ليطمئن أنها وصلتنى، ثم يطلبنى ليبدل كلمة هنا أو يضيف عبارة هناك، أو يرسل لى صورا نادرة بالبريد، وهكذا يظل الأستاذ رجاء مشغولا بما يكتب حتى يخرج للناس فى أبهى صورة. فى 8 فبراير من عام 2008 رحل رجاء النقاش فقررنا أن نخصص عدد مارس من دبى الثقافية للحديث عن دوره وإنجازاته، وقد رجوت جميع كتاب المجلة أن يخصصوا مقالاتهم عن الرجل، وكم كانت دهشتى حين انهمرت علىّ المقالات والشهادات من مصر وكل البلاد العربية مشمولة بتقدير كبير للراحل، إذ يعترف فيها كتابها الكبار بالدور الرائد لرجاء فى تكوين ذائقتهم الإبداعية وحسهم النقدى، «لا تنس أنه يكتب فى الصحافة الثقافية والفنية منذ عام 1953 كما أكد لى»، وكم كان رائعًا أننا أصدرنا مع العدد كتابًا أهديناه مجانا للقارئ العربى يضم 21 مقالا طويلا نشرها النقاش فى مجلة دبى الثقافية بداية من العدد الخامس «صدر فى أكتوبر 2005»، حتى العدد 25 «صدر فى يونيو 2007». لقد أصدر النقاش العديد من الكتب المهمة فى الأدب والفن والثقافة نذكر منها «لغز أم كلثوم/ نساء شكسبير/ مطالعات وتأملات»، ليت هيئة الكتاب تعيد نشرها لتعم الفائدة، خاصة أن الناقد الراحل يمتلك أسلوبا بالغ الرشاقة والعذوبة يغرى بالقراءة ويحرض على معانقة المتعة الذهنية. حقا.. لقد كان من حسن الطالع أن ألتقى الأستاذ رجاء النقاش!