قبل ست سنوات توقف نبض الكاتب والناقد البارز رجاء النقاش الذي أثرى حركة النقد العربي على مدى نصف قرن، حيث بشر بالمواهب الإبداعية من مختلف الأجيال والأعمار منهم: الأديب السوداني "الطيب صالح"، والشاعر الفلسطيني "محمود درويش"، و"الشاعر صلاح عبد الصبور" والشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي عبر تناوله للأعمال الإبداعية بالنقد والتحليل والدراسة، بأسلوبه المتسم بسلاسة اللغة وبساطتها وعمقها في ذات الوقت. أتخذ من الصحافة وسيلة لنشر الأعمال الأدبية، وترأس تحرير عدد من الصحف والمجلات منها: "الهلال"، و"الإذاعة والتليفزيون"، و"الدوحة"، و"الكواكب". انحاز إلى التجديد، ورأى ضرورة إحياء التراث الثقافي للقرن العشرين لأنه شهد بداية نهضة حقيقية في الفكر واللغة والإبداع، ترك رجاء النقاش ثروة ثقافية رفيعة المستوى من خلال مقالاته في النقد الأدبي التي زينت وملأت الصحف والمجلات ولعل أبرزها جريدة الأهرام، بالإضافة لكتبه التي أثرت المكتبة الثقافية منها: "أضواء المسرح"، و"مقعد صغير أمام الستار" و"نساء شكسبير" و"ثلاث نساء من مصر"، "أبو القاسم الشابى شاعر الحب والثورة" و"عباقرة ومجانين"، و"ثلاثون عاما مع الشعر والشعراء"، و"محمود درويش شاعر الأرض المحتلة"، و"تأملات في الإنسان، و"أدباء ومواقف"، و"في أزمة الثقافة المصرية"، وغيرها من المؤلفات المهمة. كما نال العديد من الدروع والجوائز، لعل أبرزها جائزة الدولة التقديرية. وقال عنه الشاعر الراحل محمود درويش في رثائه: "كنت وما زلت أخي الذي لم تلده أمي منذ جئت إلى مصر، أخذت بيدي وأدخلتني إلى قلب القاهرة الإنساني والثقافي.، و"كنت من قبل قد ساعدت جناحي على الطيران التدريجي، فعرفت قراءك علي وعلى زملائي القابعين خلف الأسوار.. عمقت إحساسنا بأننا لم نعد معزولين عن محيطنا العربي". والآن وبعد رحيله بست سنوات، ماذا عن المشهد النقدي، وكيف تأثر النقد الأدبي المعاصر بغيابه، وماذا يقول المبدعون حول فلسفته النقدية. قدرة خارقة الشاعر أحمد عبد المعطى حجازي يقول: من الوجهة الموضوعية رجاء النقاش كان ناقدا من طراز رفيع، وغالبا نحن نتحدث عن موهبة للشاعر أو للروائي أو للمسرحي أو للموسيقى، ولا نتحدث عن موهبة للناقد!! في حين أن رجاء النقاش كان ناقدا موهوبا، كأن النقد يوحى إليه، فلم يكن مجرد ثقافة تلقاها أو نظريات اطلع عليها، وإنما كان بمثابة طاقة طبيعية وكأنه ولد بها. ولهذا كانت له قدرة خارقة على الاكتشاف، يتنبأ بما سوف يصير إليه صاحب هذا النص، ولو في فترة مبكرة كان فيها المبدع الذي يتنبأ له رجاء بمستقبل متميز حتى لو كان هذا المبدع في محاولاته الأولى المبكرة. كان رجاء يستطيع أن يلمح هذا المستقبل. ولهذا لم تكن تنبؤاته محض مصادفات، لقد تنبأ لي، وللطيب صالح، مثلما تنبأ بعد ذلك لمحمود درويش بالمستقبل الذي وصلت إليه هذه الأسماء، كان يؤمن بمقولة للأديب الروسي تشيكوف"إن كان في وسعك أن تحب، ففي وسعك أن تفعل أي شيء"، لذا نراه في كتاباته النقدية كان قادرا على الحب، أي يقرأ كل عمل بمحبة، ويتحمس له ويجتهد في إظهار حسناته، بينما كان يتجنب الأعمال التي يراها سلبية، وكان بالغ الحرص على تتبع علامات الجودة والخصوصية ويشير إليها ويحتفي بها. امتلك رجاء لغة قادرة على الوصول إلى جمهور واسع، على العكس من بعض النقاد، ولاسيما نقاد هذه الأيام الذين تغلب عليهم مهنة المدرس، فكتاباتهم لها طابع المدرس، إذ يعتمدون على النقل أكثر مما يعتمدون على فهم النص واستيعابه واكتشافه وقراءاته قراءة تكشف عن أسراره للجمهور لذلك الساحة النقدية باتت مغايرة لما كان يقدمه رجاء، لأن ما كان يؤديه كان استمرارا لما قدمه كبار النقاد المصريين في النصف الأول من القرن العشرين أمثال طه حسين، والعقاد, ومحمد مندور، ولويس عوض، وأنور المداوى، هؤلاء كانت لهم ثقافة نقدية لا يحصلونها من الدراسات النظرية فقط، ولكن يحصلونها من قدرتهم على قراءة النص الأدبي الذي يقومون بنقده، بالإضافة إلى قدرتهم على الوصول للجمهور العريض، مما يمكن أن نأخذه على نقاد هذه الأيام أنهم يعتمدون على النصوص النظرية أكثر من اعتمادهم على حسن قراءة النص الأدبي، بالإضافة لعجزهم عن الوصول للجمهور الواسع مثلما كان يفعل رجاء النقاش. قائد فكر قال الناقد دكتور صبحي شفيق: انه الريفي الذي يحمل مدخرا من الرغبات، وحلماً بثقافة جديدة، ونجح في تقديم أجيال من المبدعين الجدد سواء في الشعر أو القصة أو الأدب، وفى بداية حياته اكتشف شاباً يدعى صلاح عبد الصبور، ثم الشاعر أحمد عبد المعطى حجازي، وكان متأثرا إلى حد بعيد بعباس محمود العقاد، وأنور المعداوى. وبعدما التحق بمجلة الإذاعة أخذ يكتشف الواقع بشكله الموضوعي أي النظم السياسية التي تحدد الإطر الاجتماعية والثقافية والسياسية، ثم توقف أمام سيرة غاندى، وأخذ يدعو إلى المقاومة السلمية، بعدئذ تناول شخصيات ليست معروفة إلا للنخبة الثقافية فقط، ومنهم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابى وجاء ذلك تماشيا مع فكرة غاندي وفكرة المقاومة، ما أكد أن الشعر يستطيع أن يلعب دورا في صياغة الوجدان الشعبي ودفعه نحو المقاومة. تبنى رجاء النقاش كتاب المسرح الجدد، كتب عن "الدخان" لميخائيل رومان، ثم "الفرافير" ليوسف إدريس، وغيرهم من المبدعين، وأصبح قائد فكر في الوسط الأدبي والفني. في حين لم يتناول النقاش الفن السينمائي على الوجه الأمثل، ولم يعترف به حيث كان يعتبره فنا ترفيهيا! بينما لعب النقاش دورا مهما في تطوير الشعر العربي، والدفع إلى ما نسميه الشعر غير العمودي، أي الشعر القائم على الانفعال، وهو ما يشكل الإيقاع الحقيقي لنبض الشاعر. اكتشاف المواهب ترى الناقدة والكاتبة د. أمينة رشيد أن النقاش من أهم النقاد في الوطن العربي، أثرى الساحة الثقافية في شتى مجالات الإبداع والفنون، وانه نجح في ربط كتاباته في النقد الأدبي بالقارئ العادي غير المتخصص. وذلك لأنه يتمتع بأسلوب يحرص على تقديم رؤيته برشاقة ويسر ومتعة أيضا، وقد تربت على مقالاته أجيال وأجيال، وما أحوجنا لمثل هذه النوعية من النقاد المتميزين. خاصة أن الساحة النقدية الآن شبه خاوية من النقد والنقاد، بل وربما باتت صحراوية، أثرت دراساته القيمة عقول ووجدان المبدعين، وقد خلق النقاش مناخا شجع المبدعين، حيث كان يقدم للمبدعين أعمالهم الفنية من روايات وأشعار في مجلة الهلال التي ترأسها، وكانت بفضلة منبرا للمثقفين والمبدعين، كذلك الحال بالنسبة لمجلة الدوحة القطرية التي تحولت على يديه إلى مشروع ثقافي قومي، وقبلة لكل المثقفين والشعراء والأدباء. استطاع النقاش خلال رحلته الحافلة بالإنجازات أن يقدم إلينا كماً هائلاً من المبدعين المصريين والعرب، واستطاع عبر بصيرته النافذة أن يكتشف العديد من المواهب التي أثرت الساحة الثقافية بإبداعاتها. رؤية تحليلية الناقد السينمائي أحمد الحضري، قال إن النقاش يعد من أبرز النقاد المرموقين بلا جدال، لأنه لعب دورا بالغا في الحياة الثقافية بصفة عامة، وفى المشهد النقدي على وجه الخصوص، فقد كان أول من ألقى الضوء على شعراء المقاومة الفلسطينيين، والأدباء السودانيين، وخيرة المبدعين المصريين، كنت أنتظر كتاباته لأني أثق فيما يكتب سواء في المسرح والشعر أو السينما لأنه صاحب رؤية تحليلية عميقة. الحقيقة الواضحة للعيان أننا خسرنا خسارة فادحة برحيل النقاش لأن النقاد الحقيقيين الموجودين على الساحة نادرون للغاية ومنهم الناقد كمال رمزي والناقدتان ماجدة موريس وخيرية البشلاوى، فيما عدا ذلك فمعظم الكتابات ما هي إلا انطباعات صحفية، للأسف الغالبية العظمى لا تتعمق ولا تتقن ولا تدقق فيما تكتب، لذا لا يوجد نقد بمعناه المتعارف عليه، مثل النقد الذي قدمه رجاء النقاش، وآمل أن نجد من يحل محله.