هل هناك أحد لديه قدر ضئيل من الفطنة والإدراك يستطيع أن ينكر أن مصر العظيمة تعيش منذ عقود تحت مظلة سحابة سوداء كثيفة ظللت كل شىء بظلالها الكئيبة.. بالطبع لا أقصد السحابة السوداء التى تزورنا كل عام فى الخريف والتى عجزت إدارات الدولة جميعها فى القضاء عليها.. ما أقصده هو تلك السحابة التى طبعت مصر بقوتها الناعمة وريادتها القوية فى المنطقة بتلك المسحة من الرداءة والتقهقر إلى الوراء أعوام وأعوام عما كانت عليه.. لكن أن تتقهقر مصر فى أغلب مناحى الحياة شىء وأن تتقهقر مصر الأزهر شىء آخر.. فقد كان الأزهر هو العمود الفقرى لنهضة مصر الحديثة. حين أخذت أتأمل فى ذلك الوضع المحزن الذى نحن عليه الآن والذى أصبح صارخاً بعد تصريحات وقرارات شيخ الأزهر الأخيرة.. فرضت المقارنة نفسها على تفكيرى إذ وجدت أننى بين صورتين لرمزين من رموز الأزهر الماضى والحالى الأول هو: رفاعة الطهطاوى والثانى هو محمد سيد طنطاوى.. وبين الطهطاوى والطنطاوى اتساع رهيب، وسبحان الله أن تكون المفارقة أن كليهما من مواليد محافظة واحدة هى محافظة سوهاج فى صعيد مصر الخصب بالرجال، ولكن للأسف ليس ماضينا كحاضرنا!! فعلى الرغم من أن الأول يفصل بينه وبين الثانى سنوات طوال من حيث المولد سنوات تخطت المائة، إلا أن الأول يتقدم عن الثانى بنفس القدر من السنوات أو يزيد من حيث التقدم والنجاح وإحراز النهضة لمجتمعه.. فالأول كان ضمن البعثة العلمية إلى فرنسا التى قررها محمد على بإيعاز أيضاً من الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر وقتها والذى كان ينادى بضرورة تحرر الأزهر من التخلف واتجاهه نحو استيعاب أوجه التقدم لدى من سبقونا من الأمم الأخرى.. فذهب رفاعة الطهطاوى ضمن البعثة لكن كموظف من قبل الأزهر للقيام بالوعظ والإرشاد الدينى لهؤلاء الطلبة، فإذا به يتمرد على الوظيفة ويبدأ فى التعلم منذ أن وضع قدميه على سطح السفينة التى تقلهم إلى فرنسا.. فيتعلم الفرنسية على نفقته الخاصة ويلتهم العلوم فى كافة المجالات كأفضل طالب حتى يتفوق عليهم.. ثم يعود إلى مصر فينقل ما تعلمه ويزيد عليه من علوم الشريعة والفقه.. أما الثانى فقد كبلته الوظيفة فقدسها حتى أمرته أن يتحرك فتحرك.. وأمرته أن يتكلم حين كان لا يجب عليه التكلم.. فتكلم وأمرته أن يصمت حين كان لا يجب عليه أن يصمت فصمت.. الأول رحل منذ مائة عام لكن أثر ما فعله لا يزال هو ما يدفع مصر إلى الأمام.. والثانى سيرحل كباقى البشر.. ولكن ما سيتركه هو كل ما جناه من أثر الوظيفة لورثته. أنا أؤمن بالآية الكريمة التى تقول "وتلك الأيام نداولها بين الناس" ولدى يقين بأن مصر المحروسة ستعود إلى سالف عهدها أو أفضل بإذن الله ولكنى أؤمن أن ذلك سيتحقق حين تنقشع سحابة الزمن الردىء من فوق الأزهر الشريف، لأن عصر النهضة الحديثة لمصر بدأ من الأزهر الشريف.. وكذلك عصر النهضة القادمة بإذن الله سيبدأ من الأزهر الشريف عفاه الله مما لحق به.