ترجع خطورة الفتوى فى الإسلام إلى كون المفتى حين يصدر فتواه إنما يوقع هذه الفتوى عن الله سبحانه وتعالى. فهو يصدر الحكم عن الله بمقتضى ما منّ الله به عليه من علم بكون هذا الأمر حلالاً أو حراماً أو مكروهاً كراهة تنزيهية أو كراهة تحريمية أو مندوباً وينزله على الأمر المستفتى فيه . ويأخذ المستفتى الفتوى باعتبارها هى المراد من رب العباد . وقد عنون ابن القيم أحد كتبه بعنوان: " اعلام الموقعين عن رب العالمين " للدلالة على أن الفتوى هى توقيع عن الله سبحانه وتعالى . وقد تتعلق الفتوى بموضوعات أو أمور ذات أبعاد سياسية أو إقتصادية أو إجتماعية أو دينية شائكة يختلف حولها الناس لغياب الجواب الواضح والصريح فيها . والشيخ القرضاوى منذ ثورة يناير وحتى تاريخه وهو يمطرنا بفتاويه فى مسائل السياسة على نحو افقد الفتوى منه مكانتها الواجبة من ناحية التوقيع عن الله فيها أو مكانتها من جانب المستفتى باعتبارها المراد من رب العباد . إلى حد يمكن معه التجرؤ عليه فى الرد بالقول : أنك تطوع الدين لخدمة السياسة . ويتغير لديك الحكم الشرعى بتغير موقعك السياسى الذى تقف فيه . فكل ما يؤيد موقفك السياسى فهو حلال ، وكل ما يعارضه فهو حرام حتى لو تبدل هذا الموقف وتغير موقعه . فعندما كان التصويت فى صناديق الاقتراع يخدم غرضك السياسى ، ويخدم مشروعك الفكرى الإخوانى ، أفتيت بما يخدم ذلك ، وسقت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على وجوب النزول للتصويت ففى خطبة الجمعة فى جامع عمر بن الخطاب بالعاصمة القطرية الدوحة بتاريخ 18 / 11 / 2011 م أفتى القرضاوى بقوله : " نرى نحن علماء الإسلام أن الانتخاب ليس شيئا هينا أو مستحبا، بل هو واجب، هو فريضة وضرورة؛ إذا نظرنا إليه بحكم الدين قلنا فريضة، وإذا نظرنا إليه بحكم الدنيا قلنا ضرورة؛ فهو فريضة شرعية وضرورة حياتية ". ثم يستطرد مخاطبا المواطن المصرى "لابد أن تذهب للانتخاب، وتقف فى الصف وتصبر حتى تؤدى صوتك، هذا أمر ضرورى فى الإسلام، ومن لم يدلِ بصوته فقد ارتكب حراما". ثم يسوق الأدلة الشرعية التى توجب أداء فريضة التصويت بقوله : "العملية الانتخابية فى نظر الإسلام تعد شهادة فهى إما شهادة حق وإما شهادة زور" قال تعالى فى محكم التنزيل : {... فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} (الحج: من الآية 30)، فيما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن شهادة الزور؛ حيث فى الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر)؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال: (الشرك بالله، ثم عقوق الوالدين) وكان متكئا فجلس، ثم قال: (ألا وقول الزور، ألا وقول الزور)، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت". أما عن حرمة الامتناع عن التصويت فقال : " احذر أن تضيع صوتك يقول الله تعالى: {...وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (البقرة: من الآية 283)، ويقول جل جلاله: {...وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: من الآية 140)". ويقول : {...وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ... } (البقرة: من الآية 282)". وأنا لا اعتراض لدى على ما ذهب إليه فى هذه الفتوى التى حولت التصويت إلى فريضة إسلامية ، مع أن التصويت حق شخصى فى الممارسة السياسية أحد صوره الإمتناع عن التصويت ، ولا علاقة له بالتحليل أو التحريم . وبالقطع فإن الشيخ لن يترك الفتوى مجردة من الغرض السياسى لأن أساسها ومنطلقها وغايتها سياسية. فإذا به يكشف عن الوجه السياسى للفتوى بقوله : "ستأتيكم صناديق تشهدون فيها، اشهدوا بالحق، اشهدوا لأهل الخير، اشهدوا لأهل الصدق، اشهدوا لمن يعترف بالإسلام، اشهدوا لمن يعترف بالدين، اشهدوا لمن يعترف بالحقيقة، لا تشهدوا لعلمانى ولا لادينى ولا لإنسان لا يرضى بالله رباً والإسلام دينا وبالقرآن إماماً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ". وأعتقد أنه يقصد الإخوان دون غيرهم بحسب مفهوم حسن البنا عن الإسلام والمسلمين . صدق الناس الشيخ ، وصدقوا الإخوان باعتبارهم أهل الله وخاصته ، ثم انكشفت الحقيقة ، وسقطت الأقنعة ، وبدا للناس ما كان قد خفى عنهم من فاشية هذه الجماعة وعنصريتها وفشلها وتدنى أداءها إلى حد الانحطاط ، حيث الآداء الهزلى لمجلس الشعب ومجلس الشورى ولجنة وضع الدستور .. الخ . فبدأت الجماهير تجأر بتوكيل السيسى بالتدخل للخلاص ، وأثناء ذلك بدأت حركة تمرد فى جمع توقيعات تستهدف تعرية الجماعة من ورقة التوت التى تتدثر بها وتتمترس خلفها المسماة بشرعية الصندوق . فلما شعرت الجماعة بمقدم الطوفان البشرى المائج أخذت تزمجر كاشفة عن أنيابها فى مواجهة الشعب ، وكان الموعد يوم الثلاثين من يونيه ، وحدث ما هو معروف . فخرج علينا الشيخ بفتواه يوم 6/ 6 / 2013 م ، وقد جاء فيها : " وخلاصة فتواى التى يشاركنى فيها كثير من علماء الأزهر فى مصر، وعلماء العالم العربى والإسلامي، وعلماء الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين الذى أتشرف برئاسته:إن المصريين عاشوا ثلاثين سنة - إن لم نقل ستين سنة - محرومين من انتخاب رئيس لهم، يسلمون له حكمهم باختيارهم، حتى هيأ الله لهم، لأول مرة رئيساً اختاروه بأنفسهم وبمحض إرادتهم، وهو الرئيس محمد مرسى، وقد أعطوه مواثيقهم وعهودهم على السمع والطاعة فى العسر واليسر، وفيما أحبوا وما كرهوا، وسلمت له كل الفئات من مدنيين وعسكريين، وحكام ومحكومين، ومنهم الفريق أول عبد الفتاح السيسى الذى كان وزير الدفاع والإنتاج الحربى فى وزارة هشام قنديل، وقد أقسم وبايع أمام أعيننا على السمع والطاعة، للرئيس مرسي، واستمر فى ذلك السمع والطاعة، حتى رأيناه تغير فجأة، ونقل نفسه من مجرد وزير إلى صاحب سلطه عليا، علل بها أن يعزل رئيسه الشرعي، ونقض بيعته له، وانضم إلى طرف من المواطنين، ضد الطرف الآخر، بزعم انه مع الطرف الأكثر عددا " . وقد خلط الشيخ هنا بين أحكام البيعة ومقتضيات الإنتخاب وشتان بين الأمرين ، ولا أدرى أى سمع وطاعة فى ظل نظام ديمقراطى يقوم الحكم فيه على جناحين هما حكومة ومعارضة. أما عن القسم الذى أقسمه الفريق أول السيسى فهو قسم لمصر وليس لمرسى ، ثم إن مرسى نفسه حنث بقسمه فى احترام الدستور والقانون أما الطرف والطرف الآخر فقائمة على قسمة ضيزى لأن الصحيح أن يقال جماعة وشعب . ثم ذهب الشيخ إلى تخطئة السيسى ومن وافقه دستورياً وشرعياً ، دعنا من التخطئة الدستورية ولننظر فى التخطئة الشرعية يقول القرضاوى : " وأما من الناحية الشرعية، فإن الشرع الإسلامى الذى رضيه أهل مصر مرجعا لهم فى دولة مدنية، لا دولة دينية ثيوقراطية، يوجب على كل من آمن به ورجع إليه؛ طاعة الرئيس المنتخب شرعا، وتنفيذ أوامره، والاستجابة لتوجيهاته، فى كل شؤون الحياة " بشرطين : الأول : ألا يأمر بمعصية . الثانى : أن نرى منه كفراً بواحاً . ويبدو أن الشيخ لم ير الحنث باليمين ، ولا إصدار الإعلان اللادستورى الذى جعله لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ، ولا التخابر مع دول أجنبية ، ولا التفريط فى السيادة الوطنية ، ولا الأمر بقتل المتظاهرين من موجبات عزله ومحاكمته حتى ولو كان كما ذهب الشيخ : " بل هو رجل صوامٌ قوامٌ، حريص على طاعة الله تعالى " فصومه وقيامه لنفسه وليس للأمة . ثم جعل يهاجم شيخ الأزهر والبابا وجبهة الإنقاذ والبرادعى ، وختم بالشعب كله حين قال : " حرام على مصر أن تفعل هذا، وان تفرط فى دستورها، وفى رئيسها المنتخب، وفى شريعة ربها، فليس وراء ذلك إلا مقت الله ونكاله، (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون)". ثم ذهب الشيخ إلى نقض ما غزله فى الفتوى الأولى بشأن الانتخاب والتصويت ، حيث أصدر فتوى بوجوب مقاطعة الاستفتاء على الدستور مؤرخة ب : 7 / 1 / 2014 م . جاء فيها : " أنا أرى المشاركة فى الاستفتاء على الدستور والمساهمة فى أى عمل من شأنه أن يقوى هذه السلطة الانقلابية، أو يمنحها الشرعية، أو يطيل أمد وجودها، أو يقوى شوكتها يعد من التعاون على الإثم والعدوان، وهو عمل مُحَّرمٌ شرعًا، لقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة: 2).وقوله عز وجل: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس:32) وقوله سبحانه: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ) (هود: 113). وذلك بعد أن عدّد ما تميز به مرسى ، واستعرض سجل إنجازاته الوهمية من وجهة نظره التى يُختلف حولها بالضرورة ، ثم عدّد عيوب السلطة الجديدة ومثالبها وما اقترفته فى حق الشعب من مجازر وذلك أيضاً من وجهة نظره التى يُختلف حولها كذلك . ثم أبدى رأيه السياسى فى الدستور الجديد وبنى على ذلك حكمه الشرعى المتقدم . فحتى النزول والتصويت ب : " لا "وفقاً لهذه الفتوى غير جائز. وهكذا تبدو واضحة روائح السياسة فى الفتوى الشرعية حيث خلط الرجل بين حكم الشرع ورأيه الشخصى على نحو فاضح .