السادسة صباحا قطرات الندى أشعر بها تهبط على سطح السجن الحزينة لترسم دموعا على جدرانه السميكه التى أهلكها أنين ساكنيها. برد قارس طوال العام إنه الميزة الرئيسية.. يبدو أنه برد الخوف الذى ملئ قلوب الشجعان، لم أر أحدا هنا منذ قدومى، فأنا لا أفارق غرفتى الضيقة إلا لغرفة التحقيق، أقصد غرفة التعذيب.. آلاف الأوراق والاستدعاءات والأسئلة المتكررة التى وجهت لى من المحققين، أقصد الجلادين. أظننى فقدت البصر فلقد وضعوا شريطا أسود على عيناى منذ القبض على فى منزلى الصغير ولم أعد أرى شيئا غير ظلام الغرفة الصامت. طرق الأحذية هو ما تبقى لى، فمع كل طرقه يأتينى مزيج من الألم والخوف الشديد لا يخلو من أمل فى انتهاء الكابوس. إنه السجن الأعظم فى العالم على حد ظنى.. هنا التعذيب النفسى يفوق الجسدى بمراحل عدة.. الانتحار هنا نعمة لمن يسمح لهم القدر.. أنين الجدران لا يتوقف وصمت الخوف يملأ القلوب.. لم أحدث أحدا منذ عديد السنوات حتى فى التحقيقات الدورية أوضع بغرفة مغلقة، وأكتب إجابات عديدة للأسئلة دون أن أتحدث إلى أحد. الجنون هنا رحمة لمن يقدرها.. طرقات الأحذية لا تتوقف أظننا هنا خارج نطاق الزمن فلا شعور بوقت ولا مكان.. صوت الطرقات يزداد شيئا فشىء أظننى قد جاء دورى للتحقيق.. أصبحت أحب التعذيب الجسدى فهو أقل وطأة من تعذيب النفس وشعور الرهبة وخوف الانتظار الذى أخفيته منذ زمن بعيد.. انفتح الباب وكشف عن أوجه حراسى المقنعين دوما الذين أسرعوا فى سحلى على بلاط الممر الطويل، ولكنهم لم يغطوا وجهى الشاحب تلك المرة.. سرت عديد المشاعر بى فشلت فى فهمها.. أصدر أمر الإفراج؟.. يبدو كذلك فتلك المرة الأولى التى أرى فيها الممر الطويل.. بعد رحلتى السريعة على بلاط الممرالمبلل بدماء السجناء أقصد الأبرياء!!! وصل بى الحراس إلى غرفة واسعة عن غرفتى فى آخر الرواق الضيق وهنا علت الابتسامه وجهى وتهللت فرحا.. الحمد لله... انزاح همى أخيرا.. انتهى الكابوس.. يبدو أننى قد نلت رضا الله أخيرا.. ازداد فرحى فرحا فلقد سألنى أحد الملثمين إن أردت تناول سيجارة .. اللعنة لقد نسيت طعم السجائر.. أظننى فقدت حاسة التذوق ولكننى قبلت عرضه على الفور وابتسمت فى عينيه الجامدتين التى لم أر غيرها.. تذوقت أنفاس السيجارة وشعرت مع كل نفس بقمة المتعة الامنتهايه.. لقد عدت حيا من جديد لقد ولدت اليوم!! مشيت عدة خطوات داخل الغرفة الواسعة ووقفت وسط الغرفة الجميلة ومدت يدى لأدخل رأسى الصغير داخل حبل المشنقة السميك وقد سرت فى جسدى رغبة كبيرة فى الضحك ولكننى قاومتها احتراما للمشهد.. اقترب إلى الحارس الملثم وطلب منى التشهد.. هذا الغبى يظننى نسيت أن أقول الشهادتين .. لطالما قلتهما مع خروجى من باب غرفتى الكئيبة.. رفضت طلبه على الفور ولم لا!! يجب أن أترك الدنيا بالاعتراض والرفض، نظر لى محملقا وأظنه أراد العدول عن القرار لولا الأوامر الصادرة له.. أحكم الحبل على رقبتى الطويلة ومد يده الكبيرة بسرعة معتادة إلى عصا الإعدام فارتفعت فرحا فى الهواء ورقصت لعدة دقائق قبل أن أخلد إلى النوم الهادئ.