فى الظروف التى لا حياة فيها للشعوب، كل شىء يحدث تحت سطح الأرض، ولا أحد يستطيع أن يعرف ما يدور تحت الأرض وتحت السطح، وقد يحدث شىء صغير، لا يلتفت إليه أحد، ولكنه شىء مهم يدفع مسار الأحداث بشكل كامل وبطريقة مختلفة فى اتجاه مختلف، فى الدولة الشمولية لا شىء يمكن التنبؤ به. كلمات "فاتسلاف هافيل"، المنشق التشيكى على الحكم الشيوعى، والذى ساهم فى سقوط الشيوعية فى أوروبا الشرقية، ثم أصبح رئيساً لبلاده، وكان "فاتسلاف هافيل" يتحدث عن أوضاع أوروبا الشرقية قبل سقوط جدار برلين، لكن بصيرته، ألقت الضوء على الحادثة الصغيرة التى دلت على النار التى كانت تشتعل تحت الرماد، وأسفرت فى النهاية عن أحداث الربيع العربى2011م وطننا العربى. هناك أكثر من وجهة نظر لتفسير ما يحدث فى المنطقة العربية، ويزداد الشرخ والمسافة بينهما يوماً بعد يوم، فالبعض يتبنى الرؤية التى تعتبر أن "العدوّ" فى هذه المرحلة هو "الاستبداد" الذى يجب إسقاطه، ولو من خلال الاستعانة بقوى أجنبية، أمّا البعض الآخر يرى عكس وجهة النظر الأولى، حيث يعتبر أن الخطر الأكبر فى هذه المرحلة، هو التدخّل الأجنبى فى شئون البلاد العربية، وفى السعى الدولى المحموم للهيمنة عليها من جديد، وبأنّ هذا الخطر يستوجب التسامح مع ما هو قائمٌ فى داخل بعض الأوطان العربية، من أوضاع دستورية واقتصادية وأمنية. إن واقع الحال أن كلا من الاتجاهين يحتاج إلى نقدٍ وتصويب، فمواجهة الاستبداد الداخلى من خلال الاستعانة بالتدخّل الخارجى، جلب ويجلب الويلات على البلدان التى حدث ذلك فيها، حيث تغلب حتماً أولويات مصالح القوى الخارجية على المصلحة الوطنية، ويكون هذا التدخّل سبب للصراعاتٍ والحروبٍ الأهلية، وباستيلاءٍ أجنبى على الثروات الوطنية، وبنزعٍ للهويّة الثقافية والحضارية الخاصّة فى هذه البلدان، أمّا "التسامح" مع الاستبداد من أجل مواجهة الخطر الخارجى، فإنّه عن غير قصد، يدعم كلَّ المبرّرات والحجج التى تسمح بهذا التدخّل. فبمقدار ما يكون هناك استبداد، تكون هنالك الأعذار للتدخل الأجنبى، لذلك كان مهمّاً استيعابُ دروس تجارب شعوب العالم كلّه، بأنّ الفهم الصحيح لمعنى "الحرّية" هو فى التلازم المطلوب دائماً بين "حرّية المواطن وحرّية الوطن"، وبأنّ إسقاط أى منهما يُسقط الآخر حتماً. إنه من الخطأ وضع كلّ الثورات والانتفاضات العربية فى سلّةٍ واحدة، ثمّ تأييدها والتضامن معها تبعاً لذلك، فالمعيار هو ليس المعارضة فقط أو أسلوب المسيرات الشعبية، بل الأساس لرؤية أى منها، وهو السؤال عن هدف هذه الانتفاضات، ثمّ عن هويّة القائمين عليها، فمنذ انطلاقة الثورة التونسية أولاً، ثمّ المصرية لاحقاً، تأكّدت أهميّة التلازم المطلوب بين الفكر والأسلوب والقيادات فى أى حركة تغييرٍ أو ثورة، وبأنّ مصير هذه الانتفاضات ونتائجها سيتوقّف على مدى سلامة هذه العناصر الثلاثة معاً، فالتغيير السياسى، وتحقيق الإصلاحات الدستورية والاقتصادية والاجتماعية فى المجتمعات العربية، هو أمرٌ منشودٌ ومطلوب لدى العرب أجمعين، لكن من سيقوم بالتغيير وكيف، وما هو البديل المنشود؟، وما هى تأثيراته على دور هذه البلدان وسياساتها الخارجية؟، كلّها أسئلة لم تجد حتّى الآن إجابةً عنها فى عموم المنطقة العربية، رغم أنّها مهمّةٌ جداً لفهم ما يحدث ولمعرفة طبيعة هذه الانتفاضات الشعبية العربية. أيضاً، المشكلة فى الموقف من هذه الانتفاضات أن المعايير ليست واحدةً عند العرب ككُل، فصحيحٌ أنّها تحدث على الأرض العربية وتترك تأثيراتها على المنطقة بأسرها، لكن ما هو معيارٌ شعبى عربى عام لدعم هذه الثورة، أو تلك، يختلف ربّما عن معيار أبناء الوطن نفسه، فمعظم العرب رحّبوا مثلاً بالثورة المصرية، لأنّها أنهت عهداً من سياسةٍ خارجية مصرية كانت لا تعبّر عن مصر وشعبها ودورها التاريخى الريادى، بينما المعيار الأهم لدى الشعب المصرى كان مسائل داخلية، كالفساد السياسى للنظام السابق، والظلم الاجتماعى الناتج عنه، وغياب المجتمع الديمقراطى السليم. إن الربيع العربى مخاض بكل ما يحمله من آمال وآلام ومخاطر، وأنه "كلما كانت الأنظمة أكثر استبدادا وبطشا كانت ردود الفعل الشعبية أكثر عنفا"، وبالرغم من أن المواطن العربى أصبح لديه القدرة على إيصال صوته، لكنه لم يمتلك بعد القدرة على الاستماع للآخر، حيث إنه كلما زادت حدة المواجهة، وأمدها أصبح الانتقال من رد الفعل الرافض إلى الفعل البنّاء أصعب. إن سيطرة الحزب الواحد أو التعصب للطائفة، أو العشيرة يفقد الديمقراطية معناها، فابن العشيرة يصوِّت لممثل عشيرته كما يحدث، لذلك فإن الانتخابات لا تعنى وجود ديمقراطية، حيث إن الانتخابات وسيلة لتحقيق إجماع، ولكن يتبقى إدارة الخلافات بين الفرقاء بشكل سلمى، والوصول لنقطة اتفاق هو الأهم.