وفاة أفقر رؤساء العالم ورئيس أوروجواي ينعاه بكلمات تهز القلوب    شهروا بيه، تامر حسني يحرر محضرا رسميا ضد شركة دعاية وإعلان بالشيخ زايد    باختصار.. أهم أخبار العرب والعالم حتى منتصف الليل.. ترامب: نستخدم قوتنا العسكرية لإحلال السلام.. وروسيا: المحادثات مع أوكرانيا يجب أن تعقد خلف أبواب مغلقة.. والاتحاد الأوروبى يحتاج 372 مليون يورو استثمارات    ترامب: ما حدث فى السابع من أكتوبر لم يكن ليحدث فى وجودى    ترامب يعلن رفع العقوبات عن سوريا والكويت تؤيد: خطوة نحو الاستقرار    بوتين: لن تعود العلامات التجارية الأجنبية إلى روسيا إلا إذا أضافت قيمة حقيقية    الخطيب يهنئ رجال يد الأهلي بعد الفوز بالسوبر الإفريقي علي حساب الترجي    نجم الأهلي: حزين على الزمالك ويجب التفاف أبناء النادي حول الرمادي    سامبدوريا الإيطالي إلى الدرجة الثالثة لأول مرة في التاريخ    الدكش يكشف رد فعل الرمادي بعد خطأ عواد الكارثى أمام بيراميدز.. فيديو    مدبولى: الحكومة حريصة على الاستماع لمختلف الآراء بشأن رد الأعباء التصديرية    إصابة 9 أشخاص إثر حادث اصطدام سيارة برصيف فى التجمع    تعليم سوهاج تواصل تقديم المحاضرات المجانية لطلاب الثانوية العامة.. صور    التحفظ على سيارات بدون لوحات معدنية ودراجات بخارية مخالفة بحى المنتزه بالإسكندرية    فتحي عبد الوهاب: "مش بزعق في البيت وبحترم المرأة جداً"    محافظ الإسماعيلية يشيد بالمنظومة الصحية ويؤكد السعى إلى تطوير الأداء    محافظ الدقهلية يهنئ وكيل الصحة لتكريمه من نقابة الأطباء كطبيب مثالي    طريقة عمل أم علي، ألذ تحلية لأفراد أسرتك وضيوفك    رئيس جامعة المنيا يستقبل أعضاء لجنة المشاركة السياسية بالمجلس القومي للمرأة    سعر الطماطم والخيار والخضروات في الأسواق اليوم الأربعاء 14 مايو 2025    حرس الحدود يعين أحمد عيد عبد الملك مديرًا فنيًا جديدًا للفريق    «لماذا يركز على لاعبي الأبيض؟».. نجم الزمالك السابق يهاجم سياسة الأهلي    نجم الكرة المصرية السابق: رحيل كولر أنقذ الأهلي.. والنحاس يسير بخطى ثابتة    بورفؤاد يتحدى الإنتاج الحربي في صراع الصعود إلى دوري المحترفين    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الجديد.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 14 مايو في الصاغة    سعر السكر والارز والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الأربعاء 14 مايو 2025    نشرة التوك شو| استعدادات الحكومة لافتتاح المتحف المصري الكبير.. وتعديلات مشروع قانون الإيجار القديم    في وجود ترامب بالمنطقة.. الحوثي يستهدف مطار بن جوريون الإسرائيلي بصاروخ باليستي    «بيطري دمياط»: مستعدون لتطبيق قرارات حيازة الحيوانات الخطرة.. والتنفيذ خلال أيام    هدوء ما بعد العاصفة .. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم الأربعاء    «من الخميس للثلاثاء».. تفاصيل جدول امتحانات الصف الرابع الابتدائي 2025 بدمياط    أرعبها وحملت منه.. المؤبد لعامل اعتدى جنسيًا على طفلته في القليوبية    البيت الأبيض يكشف عن أبرز الصفقات مع السعودية بقيمة 600 مليار دولار    فرصة لخوض تجربة جديدة.. توقعات برج الحمل اليوم 14 مايو    الكثير من المسؤوليات وتكاسل من الآخرين.. برج الجدي اليوم 14 مايو    وقت مناسب لاتخاذ خطوة تجاه من تحب.. حظ برج القوس اليوم 14 مايو    بحضور يسرا وأمينة خليل.. 20 صورة لنجمات الفن في مهرجان كان السينمائي    حدث بالفن | افتتاح مهرجان كان السينمائي وحقيقة منع هيفاء وهبي من المشاركة في فيلم والقبض على فنان    هل أضحيتك شرعية؟.. الأزهر يجيب ويوجه 12 نصيحة مهمة    الجيش الإسرائيلي يأمر بإخلاء واسع شمال قطاع غزة    أحمد موسى: قانون الإيجار القديم "خطير".. ويجب التوازن بين حقوق الملاك وظروف المستأجرين    وزير التعليم يستقبل الممثل المقيم لصندوق الأمم المتحدة للسكان    مهمة للرجال .. 4 فيتامينات أساسية بعد الأربعين    لتفادي الإجهاد الحراري واضطرابات المعدة.. ابتعد عن هذه الأطعمة في الصيف    فتحى عبد الوهاب: العلاقة تاريخيا ملتبسة بين الإخراج والإنتاج ويشبهان الأب والأم    اجتماع لمجلس النقابة العامة للمحامين والنقباء الفرعيين غدًا    من بين 80 غزوة.. علي جمعة يكشف عدد الغزوات التي شارك فيها النبي؟    هل تعليق الصور في البيوت يمنع دخول الملائكة؟.. أمين الفتوى يحسم    هل تأثم الزوجة إذا قررت منع الإنجاب؟.. أمين الفتوى يجيب    محافظ جنوب سيناء خلال لقاؤه «الجبهة»: المواطن السيناوي في قلب الأولويات    الصين صدرت 242 ألف سيارة تجارية في الربع الأول من 2025    التقنية الحيوية ومستقبل مصر.. رؤية من جامعة القاهرة الأهلية    المستشارة أمل عمار تشهد ختام التدريب التفاعلي الثالث لقاضيات مجلس الدولة    محمد رمضان يكشف موعد طرح أحدث أغانية «البابا راجع»    انطلاق المسابقة العالمية للقرآن الكريم بمديرية أوقاف كفر الشيخ    براتب 87 ألف جنيه.. تعرف على آخر موعد لوظائف للمقاولات بالسعودية    الأكاديمية الطبية العسكرية تفتح باب التسجيل ببرامج الدراسات العليا    جدول مواعيد امتحانات الترم الثاني 2025 في محافظة أسيوط جميع الصفوف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تاريخ المصريين مع كرة القدم (2).. فى انتظار البهجة
نشر في ياللاكورة يوم 05 - 05 - 2011

حين غيرت مصر لغتها ودينها واعتنقت المسيحية .. لم يكن من الطبيعى أن يقبل المصريون على اللعب بعد أن حملوا الصليب .. فالمسيحية كانت دينا يزدرى الجسم ويعلى من شأن الروح .. فالجسد فى الفكر المسيحى هو مصدر كل شر وإثم .. وكان من نتيجة هذه الرؤية المسيحية المعادية للرياضة .. أن بدأت مصر القبطية تتنازل عن كثير من الألعاب ..
وحين عادت مصر للعب بعد إسلامها .. عادت بنفس القاعدة القديمة الدائمة .. اللعب للملوك والأمراء والنبلاء وحدهم .. وليس حقا للبسطاء والفقراء وحتى عموم الناس .. ففى عهد الدولة الطولونية كان أحمد بن طولون فقط هو الذى يلعب البولو مع رجال البلاط .. وفى عهد الدولة الأخشيدية كان وجهاء القوم وحدهم هم الذين يستمتعون برياضة الصيد .. وفى عهد الدولة الفاطمية كانت مشاهدة السباحة إحدى هوايات الخليفة الحاكم ..
وفى الدولة الأيوبية انتشرت رياضة الكرة والصولجان وكان صلاح الدين الأيوبي من أمهر هذه الرياضة فى عصره وأوانه
وبقى تعلم السباحة حقا لا يملكه إلا أبناء الملوك والنبلاء .. وفى الدولة الأيوبية انتشرت رياضة الكرة والصولجان وأصبح من عادة السلطان صلاح الدين الأيوبى أن يخرج مع رجاله وفرسانه لممارسة هذه اللعبة يومى السبت والثلاثاء من كل أسبوع بعد وفاء النيل .. وكان صلاح الدين من أمهر لاعبى الكرة والصولجان فى عصره وأوانه ..
ثم يأتى زمن المماليك .. ويقدم لنا لطفى أحمد نصار أهم وأعمق دراسة تناولت الرياضة واللعب فى مصر الإسلامية .. ورغم أن الدراسة اقتصرت على زمن المماليك إلا أنها كانت استعراضا دقيقا وأمينا وعميقا أيضا للرياضة وجذورها فى مصر الإسلامية بشكل عام .. وفى هذه الدراسة يؤكد لطفى أحمد نصار أن الألعاب التى اشتهرت فى زمن المماليك هى الفروسية والرماية والمصارعة والمبارزة والتحطيب .. وكانت السباحة أيضا من الألعاب الشائعة فى زمن المماليك .. وأيضا الكرة والتى كانت أشبه بلعبة البولو الحالية أى لعب الكرة بالعصا من فوق ظهور الخيل ..
ومن جديد .. يؤكد لطفى أحمد نصار أن اللعب بقى مقصورا على الملوك والأمراء وعلية القوم دون عامة الشعب .. كان الناس فقط ينتظرون خروج السلطان مع رجاله للعب الكرة حيث يمكن أن يبتهج السلطان بعد اللعب فيوزع عليهم الذهب مثلما يوزع الخيول على الأمراء ..
وكان الناس أحيانا لا ينتظرون خروج السلطان ليلعب فيتمنون له البهجة والغلبة ويمنون أنفسهم وعيالهم بالذهب .. ولكن كانوا أحيانا يشكون ويتذمرون من إفراط السلطان فى اللعب على حساب شئون البلاد ومصالح العباد كما حدث فى سنة 1345 حيث استمر السلطان الكامل شعبان يلعب الكرة كل يوم وأعرض عن تدبير الأمور فتمرد المماليك وأخذوا حقوق الناس وقطعوا الطرقات وكثرت الفتن دون أن يهتم السلطان شعبان أو يعبأ بذلك ولم يتوقف عن اللعب رغم كل هذه الانتقادات ..
باختصار .. عاش المصريون طويلا لا يحبون الحركة .. لا يرحبون ببذل الجهد أو التعب إلا سعيا وراء الرزق .. وفيما عدا ذلك .. فالسكون يستهويهم .. والرياضة لا تعنيهم
وبعد المماليك .. لم تتغير الصورة .. فلم يلعب المصريون البسطاء فى زمن العثمانيين .. ولا مع جنود نابليون .. ولا مع الأتراك وكل من جاء معهم وبعدهم .. بقى المصريون لا يلعبون .. حتى جاء إدوارد وليم لين فى القرن التاسع عشر ليقرر ببساطة ويشهد شهادة من عاش وعرف ورأى بأن المصريين عموما لا يعرفون الألعاب الرياضية تلك التى تتطلب جهدا جسديا .. ويجئ بعده جهينة ليشهد شهادة من قرأ وبحث وتأمل بأن الرياضة لم تكن إلا خيام الموالد والأكروبات وشد الحبل وصيد العصافير.
باختصار .. عاش المصريون طويلا لا يحبون الحركة .. لا يرحبون ببذل الجهد أو التعب إلا سعيا وراء الرزق .. وفيما عدا ذلك .. فالسكون يستهويهم .. والرياضة لا تعنيهم ولا هى أصلا من مفردات همومهم وأيامهم ودنياهم ولا تشغل ممارستها أى مساحة فى نظام حياتهم .. وكان من الممكن أن يبقوا هكذا إلى ما شاء الله لولا أن جاء الإنجليز .. وجاءت معهم كرة القدم .. ورغم أن الكرة لم تكن هى اللعبة الوحيدة التى حملها الإنجليز معهم إلى مصر .. وإنما جاءوا بألعاب كثيرة كالتنس والإسكواش والبولو .. إلا أن كرة القدم وحدها هى التى لاقت هوى لدى الغالبية فى مصر ..
ويرجع ذلك لعدة أسباب منها أن الإنجليز الذين جاءوا إلى مصر كانوا فى حقيقة الأمر ينقسمون إلى فريقين .. قادة وضباط .. وعسكر وجنود .. مثلما كان المصريون فى المقابل ينقسمون بدورهم إلى طبقتين .. أمراء وأغنياء .. وبسطاء وفقراء .. القادة والضباط الإنجليز نقرأ عنهم فى مذكرات الخديوى عباس حلمى الذى تولى حكم مصر من 1892 وحتى 1914 ونعرف من هذه المذكرات أن ضباط جيش الاحتلال فى سنوات البدايات كانوا من بريطانيا العظمى نفسها .. ينتسبون كلهم تقريبا إلى الطبقات العليا .. وأنهم عاشوا خارج المشاغل المصرية فكانت لهم دائرتهم وناديهم وأرض الرياضة والبولو والتنس ..
ويضيف خديوى مصر الأخير فى مذكراته أن سعادة هؤلاء الضباط كانت تتلخص فى سباقاتهم وألعابهم العنيفة والرياضة والرقص والبلياردو .. أما العسكر والجنود .. فلم يتحدث عنهم خديوى مصر بالطبع ولكننا عرفنا من كتب وحكايات أخرى أنهم أقاموا فى معسكرات وثكنات كانت قريبة من الأحياء الشعبية أو فى قلبها سواء فى القاهرة أو الإسكندرية ..
كانت معسكرات القاهرة وميادينها وشوارعها وحواريها تشاهد وتشهد على هذا اللقاء الكروى التاريخى بين الفقراء المصريين والفقراء الإنجليز
أى أن الضباط الإنجليز جاءوا إلى مصر بألعابهم الراقية كالتنس والإسكواش والبولو ولم تختلط بهم إلا الطبقات الراقية من المصريين الذين لم يكونوا محرومين أصلا من اللعب .. بينما جاء الجنود الإنجليز بكرة القدم إلى مصر مثلما ذهبوا بها إلى كل مكان كما يؤكد ريتشارد جوليانوتى أستاذ علم الاجتماع فى جامعة أبردين الإسكتلندية وأشهر من قدم للعالم كتبا وبحوثا ودراسات عن كرة القدم .. معناها ودورها تاريخيا وسياسيا واجتماعيا
وبينما كان الضباط والقادة الإنجليز يلتقون بالأرستقراطيين المصريين ليمارسوا معا ألعابهم الراقية .. كانت معسكرات القاهرة وميادينها وشوارعها وحواريها تشاهد وتشهد على هذا اللقاء الكروى التاريخى بين الفقراء المصريين والفقراء الإنجليز .. فحتى ذلك الوقت لم تكن كرة القدم هى إحدى اللعبات الراقية وإنما كانت على حد تعبير الكاتب السياسى اللبنانى الكبير غسان الإمام لا تزال هى لعبة الفقراء الذين يبحثون لهم عن مكان وعن اعتراف بهم والذين رمى لهم أصحاب المناجم الإسكتلندية هذه الكرة لتصبح لهوهم وعزاءهم ودنياهم ..
وهو الرأى الذى أكده من قبل عالم الإجتماع فابلن نوه حين قال إن الرياضة باستثناء كرة القدم كانت إحدى مظاهر الترف الاستهلاكى ووسيلة لشغل أوقات الفراغ لدى الطبقة الأرستقراطية الإنجليزية فى القرن التاسع عشر.. وبالتالى لم يجد أغنياء مصر فى البدايات لا القدرة ولا الجرأة أو الرغبة والهوى فى تعلم وممارسة هذه اللعبة الفقيرة الجديدة .. ولعل ذلك كان السبب المباشر والأول وربما الوحيد لأن ترفض أندية هذه الطبقة التى تأسست بفضل الإنجليز الأوائل قبول أو ممارسة كرة القدم .. لا الجزيرة أو المعادى أو هليوبوليس فى القاهرة .. ولا سبورتينج فى الإسكندرية .. وبقيت كرة القدم لعبة يخجل منها ويزهد فيها الأغنياء لصالح الفقراء .. سواء كان هؤلاء الفقراء جنود من أصحاب اللعبة أو أطفال وأهالى من أصحاب الأرض
وفى وسط أحياء مصر الشعبية والفقيرة وفى قلبها أى قريبا جدا من المصريين البسطاء والفقراء المحرومين أبدا من اللعب .. بدأ الجنود الإنجليز يمارسون كرة القدم.. وسرعان ما اكتشف المصريون البسطاء والفقراء أن هذه اللعبة تصلح تعويضا لهم عن حرمانهم الرياضى الطويل .. فكان هذا الحرمان هو أول دافع لهم لأن يقتربوا أكثر وأكثر من معسكرات الإنجليز وثكناتهم ليشاهدوا هذه اللعبة الجديدة التى يلعبونها ولم يكن اقبال الفقراء المصريين على لعب الكرة ظاهرة مصرية .. بل كان ظاهرة عالمية ..
ففى أوج التوسع الإمبراطورى البريطانى .. أصبحت كرة القدم هى السلعة البريطانية الوحيدة التى يجرى تصديرها بهمة وحماسة لفقراء العالم مقابل السلع الفخمة
ففى أوج التوسع الإمبراطورى البريطانى .. أصبحت كرة القدم هى السلعة البريطانية الوحيدة التى يجرى تصديرها بهمة وحماسة لفقراء العالم مقابل السلع الفخمة والأقمشة الأنيقة التى جرى تصديرها للأغنياء والأثرياء .. وفى الوقت الذى كانت فيه الرجبى تتحول إلى رياضة مفضلة للطبقات المتوسطة فى انجلترا ومعظم المستعمرات البريطانية كجنوب أفريقيا واستراليا ..
كانت كرة القدم تنمو باعتبارها لعبة الطبقات العاملة والفقيرة فى مختلف أنحاء العالم .. ولا أحد حتى الآن يعرف ما إذا كان تصدير كرة القدم البريطانية لفقراء العالم مقابل تصدير الكريكيت والرجبى والتنس للأغنياء سياسة انجليزية أم أن ذلك جرى بمحض الصدفة .. لكننا نعرف على الأقل أن كرة القدم فى مصر وفى العالم كله كانت دائما هى الفرصة الكبرى أمام الفقراء لارتقاء السلم الاجتماعى ..
نعرف أيضا أن ما جرى فى مصر يكاد يكون هو نفس ما جرى فى أمريكا اللاتينية مثلا .. فكرة القدم هناك انتقلت من أقدام البحارة والعمال الإنجليز إلى الأحياء الهامشية فى بوينس آيريس ومونتيفيديو وساو باولو وريو دى جانيرو .. حتى أن هذه اللعبة التى ولدت وتم تنظيمها وسن قوانينها فى المدارس والجامعات الإنجليزية .. بدأت تدخل البهجة فى حياة من لم يدخلوا مدرسة فى حياتهم على الإطلاق .. وتكرر السيناريو اللاتينى فى مصر بنفس تفاصيله ومشاهده ..
وإذا كان الفقراء اللاتينيون قد بدأوا يؤممون كرة القدم لتصبح لعبتهم الخاصة .. أخذوها من الإنجليز بقوانينها ونظمها ثم لم يكتفوا بذلك وإنما مزجوها بروحهم .. بانحناءات الجسد الراقص .. بالأرجل التى طال شوقها للعب وللرقص معا .. فكان لابد وأن تتحول كرة القدم هناك بعد قليل من الوقت إلى هوى شعبى وتتنازل تماما عن كونها مجرد وسيلة تسلية راقية .. فإن هذا هو بالضبط ما تكرر فى مصر ..
فقد تعلم المصريون الفقراء قواعد اللعبة الجديدة .. لكنهم كأهل أمريكا اللاتينية بدأوا يخترعون شكلا جديدا لها .. بدأوا يغزلون بالكرة .. وولد فن كروى جديد فى مصر اسمه التغزيل لم يمارسه الجنود الإنجليز أبدا فى معسكراتهم وثكناتهم .. ولا يعنى ذلك إلا أن اللاعب المصرى فى تلك الأيام لم يكن يلعب ليفوز .. وانما يلعب ليستمتع .. وليجذب الأنظار أيضا وينال اعجاب الآخرين أيضا .. فيجتهد لأن تبقى معه الكرة أطول فترة ممكنة .. فالكرة لم يتعلمها المصريون لتصبح مجرد لعبة من بين ألعاب كثيرة يمارسونها .. ولكنها كانت بالنسبة لكثيرين جدا منهم وقتها هى اللعبة الوحيدة الممكنة ..
فالكرة لم يتعلمها المصريون لتصبح مجرد لعبة من بين ألعاب كثيرة يمارسونها .. ولكنها كانت بالنسبة لكثيرين جدا منهم وقتها هى اللعبة الوحيدة الممكنة
كانت أيضا هى الطاقة التى فتحوها بأقدامهم وقلوبهم فى جدار الصمت والكآبة ليصلوا إلى البهجة .. ومرة أخرى لم يكن اللاتينيون ولا المصريون استثناء ولا كانوا وحدهم الذين اخترعوا كرة قدم خاصة بهم .. ولعل ذلك هو السر الحقيقى وراء عبقرية كرة القدم .. فهى تكاد تكون اللعبة الوحيدة التى عرفها العالم تسمح لشعوب كثيرة فيه بأن تعيد تشكيل هذه اللعبة وصياغتها بما يتناسب مع ثقافة كل شعب وتاريخه وحياته وظروفه.
وهنا .. يمكن الحديث عن السبب الثانى لانتشار كرة القدم فى مصر .. فبالإضافة إلى الحرمان الرياضى الطويل الذى عاشه وعانى منه بسطاء وفقراء مصر مما دعاهم للإقبال على كرة القدم .. فإن السبب الثانى كان يتعلق بكرة القدم نفسها .. بهذه اللعبة السهلة التى يمكن أن يلعبها أى أحد بدون جهد أو تعقيد .. بدون خوف أو خطر أو أى أعباء مالية على الإطلاق .. فالكرة كما أكد ريتشارد جوليانوتى .. لعبة سهلة .. قوانينها سهلة وممارستها أيضا سهلة ..
يكفى ألا يمسك اللاعب الكرة بيديه وألا يعرقل اللاعب لاعبا من الفريق المنافس .. ثم يجتهد كل فريق فى إدخال الكرة فى مرمى الفريق الآخر .. هذا هو كل ما يحتاج الإنسان لمعرفته ليلعب كرة القدم .. أما بقية القوانين كالتسلل وضربات الجزاء وعدد لاعبى كل فريق .. فهى قوانين نسبية ويمكن تغييرها والاتفاق عليها قبل بدء اللعب أو حتى أثناء اللعب .. أما اللعب نفسه فهو لا يتطلب أى ملعب خاص ..
فالكرة يمكن ممارستها فى الملاعب الخاصة بها مثلما يمكن أيضا لعبها فى أى مساحة خالية .. فى الشوارع وعلى الشواطئ بل وحتى داخل البيوت .. كما أنه ليست هناك مواصفات أو قدرات خاصة من الضرورى توافرها فى من يريد لعب كرة القدم .. لا الطول ولا الوزن ولا حتى القوة البدنية وكرة القدم ليست فقط لعبة سهلة .. وإنما هى أيضا لعبة ممتعة .. ففيها كل ما فى الألعاب الجماعية من حيوية وديناميكية والتداخل بين الفرد والمجموع بعيدا عن خصوصية اللعبات الفردية وذاتيتها ..
ثم تتميز كرة القدم بين باقى الألعاب الجماعية بأنها أولا الحالة الوسط بين منتهى العنف كما فى الرجبى والكرة الأمريكية وبين منتهى السلامة والأمان كما فى الكرة الطائرة .. ثم إنها ثانيا تتيح الفرصة للتألق والإبداع حين يولد ويكتمل دون أن تقاطعه أو تقطعه بوقت محدد كما فى كرة السلة أو كرة اليد .. وبالإضافة لذلك كله .. فهى لعبة خاصة بالنسبة للجسد البشرى كما أكد ذلك الأستاذ الأمريكى دكتور بيرت ماندلبوم حين اكتشف أن كرة القدم هى أكثر لعبة عرفها الإنسان تجبر ممارستها الجسم على الوصول لسقف كل عمليات التمثيل الغذائى فى وقت واحد واستغلال كل الجلوكوز المختزن فى الدم أو العضلات أو الكبد .. وهو ما يضفى على لعب كرة القدم إحساسا غامضا يعقب اللعب بالسعادة والمتعة.
إذن .. المصريون الفقراء المحرومون طويلا وكثيرا من اللعب .. وجدوا أخيرا اللعبة السهلة والرخيصة والجميلة والممتعة التى يمكن لهم ممارستها فى أى وقت وفى أى مكان .. فبدأوا يلعبون الكرة بشوق وحب وفرحة دون أن يكون للاحتلال الإنجليزى أى دور مباشر فى ذلك باستثناء أن الجنود الإنجليز كانوا هم الأساتذة الأوائل الذين تعلم منهم المصريون أسس وقواعد كرة القدم ..
مصر كانت تحتاج لكرة القدم تاريخيا ونفسيا واجتماعيا وكانت ستلعبها سواء احتلها الإنجليز أو غيرهم أو حتى لم تحتلها أى دولة أخرى.
وهو رأى لن يقبل به ولن يرضى عنه كثير من أولئك الذين استهوتهم دائما فكرة أننا فى مصر لم نلعب الكرة ولم نحبها إلا لإعلان الحرب على الإنجليز ومقاومتهم والانتصار عليهم فى أى مجال .. وينسى هؤلاء أن مصر كانت تحتاج لكرة القدم تاريخيا ونفسيا واجتماعيا وكانت ستلعبها سواء احتلها الإنجليز أو غيرهم أو حتى لم تحتلها أى دولة أخرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.