جلس الراوى في مولد سيدى إبراهيم الدسوقى، يحكى للدراويش قصة شاه بندر الفجار وغلاء الأسعار. قال الراوى: اسمعوا يا سادة يا كرام.. ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبى عليه الصلاة والسلام.. يحكى أنه في سالف العصر والأوان.. كان يجلس على كرسى عرش مصر المحروسة سلطان.. وكانوا يلقبونه بنصير الفقير والغلبان.. وفى يوم من الأيام جلس السلطان في قاعة الحكم وكان قائمًا على يمينه قاضى القضاة وكبير الأمراء وحامل سيف السلطنة وعلى شماله يقف جميع أمراء الإقطاعيات ومعهم شاه بندر التجار.. وبعد أن نظر إليهم السلطان نظرة ثاقبة.. أمرهم بالجلوس بين يديه.. ثم قال: اجلسوا.. ولنجعل يومنا هذا للنظر في مظالم الرعية.. هب كبير الأمراء وتقدم من السلطان ساجدًا تحت قدميه قائلا: هل يظن مولاى بعد أن من الله عليه ومكنه من البلاد والعباد وألهمه الحكمة والعدل أن يكون من بين رعيته جائع أو مظلوم؟ لقد فتحت السماوات أبوابها على أيديكم فانزلت كل خيراتها.. وجرت الأنهار تحت أقدامكم فأخرجت الأرض كل ثمارها، فلم يعد ببلادكم جائع أو محروم.. الأطفال يا مولاى في بلادكم وبسبب كثرة الخير يلعبون في الأزقة والحوارى بالدراهم والدنانير.. ومن كثرة الأموال يرمونها في النيل.. نسهر الليالى يا مولاى أنا وجميع الأمراء نبحث عن محتاج أو فقير كى نرزقه من عطايا السلطان فلا نجد.. ونعود خائبين ويشهد على ذلك قاضى القضاة.. قاضى القضاة: هذا حق ورب السماء.. السلطان يبتسم ويكتسي وجهه بملامح الرضا ويأمر كل الحضور بالسجود شاكرين لله على عطاياه ويطلب من منادى القصر أن يعلن في الرعية أن من كانت لديه مظلمة فليأتي بين يدى السلطان وقف المنادى بباب القصر ليعلن بصوت خفيض: يا أهالي مصر المحروسة.. من كانت لديه مظلمة أو وقع في "حوسة" فليأتى إلى سلطاننا العظيم.. نصير الفقراء والمساكين.. ولم يكد يتم جملته حتى امتلأ الديوان وباحة القصر والميادين المحيطة بجموع الرعية والمساكين، نظر السلطان باندهاش وقال: هل اجتمعت الرعية في التو والحال لتشكرنى على الخير الذي يجرى بين أيديهم بسببى.. حمدًا لله ! وإذا بأحد الرعية يصرخ قائلًا: مولاى.. إن الرعية من هول ما يعيشونه من فقر وجوع تراهم يترنحون في مشيتهم وكأنهم سكارى ! ويقول آخر: مولاى.. أنا أعرض عليكم بيع أولادى دون ثمن مقابل إطعامهم.. فإنى لا أجد قوت يومهم.. وتقف امرأة في مقتبل العمر، وتقول في خبث: اسمع منى يا سلطان البلاد.. أنا إحدى رعاياك.. أقوم بذبح الكلاب الضالة كى أطعم أطفالي حتى لا يموتون جوعًا.. ثم تهتف امرأة عجوز: ليس لنا إلا الله.. لم نذق الطعام منذ ثلاثة أيام بسبب غلاء الأسعار.. أصبح رغيف الخبز أمنية تتمناه الرعية فلا تجده.. نحن لا نحلم بلحم أو دجاج.. أطفالنا يا مولاى من غلاء الأسعار يسمعون عن كوب اللبن وكأنه من حكايات ألف ليلة وليلة ! وهنا هتفت الجموع: نريد رغيف الخبز ! ويقول الراوى: وبرزت امرأة من بين الرعية وهى شبه عارية لا يستر جسدها إلا بعض الأوراق القديمة.. تنظر للسطان في انكسار وهى تقول: مولاى السلطان.. نحن من رعاياك.. نحن سكان القبور.. لا نحلم يا مولاى بغرفة تأوينا.. يكفينا منكم أنكم سمحتم لنا في مملكة العدل أن نتخذ من الأرض فرشًا ونلتحف بالسماء.. ليس لنا مطلب غير الكساء نستر به عوراتنا من برد الشتاء.. لى ثلاث بنات يا مولاى أبحث لهن عن كسرة خبز بغير عناء.. من يمرض من أطفالنا يا مولاى لا نطلب له الشفاء بل نتمنى أن يرحل إلى عالم لا يجد فيه جفاء.. ابنتى باعت جسدها من أجل رداء.. أرادت أن تستر عورتها فسقطت في بئر البغاء.. من يتحمل يا مولاى وزر أطفال تنام بلا غذاء.. فهل ترى يا مولاى في مطلبى هذا بعضًا من غباء أو فيه تعد على حقوق السادة والوجهاء ؟!ّ يقول الراوى: وهنا سادت قاعة الحكم حالة من الصمت الرهيب.. السلطان: أين شاه بندر الفجار.. فليحضر أمامى.. انتفض شاه بندر التجار.. وركع ساجدًا تحت قدم السلطان.. وهو يصرخ ويقول: مولاى.. إن هؤلاء ليسوا من الرعية، بل إنهم جواسيس من الخوارج، دخلوا البلاد في غفلة من العسس، إنهم يريدون تقويض نظام حكمك بعد أن رأى الأعداء خيرات بلادنا تفيض عن حاجة الرعية، إن رعاياك يا مولاى في أمان ورخاء بفضل حكمتك ورعايتك لهم.. إن رعاياك بالخارج ليس لهم إلا مطلب واحد.. أين يذهبون بفائض أموالهم من كثرة الخير.. يشهد على ذلك كبير الأمراء وقاضى القضاة.. كبير الأمراء وقاضى القضاة في صوت واحد: صدق شاه بندر التجار.. صدق ورب السماء ! وهنا يأمر السلطان سيف الدولة بقطع رقاب الجواسيس الخوارج وتعلق رءوسهم على أبواب القصر حتى يعلم الرعية أن السلطان قد طهر البلاد من هؤلاء الجواسيس، ويأمر بمضاعفة جباية الضرائب عشرة أضعاف لبيت مال السلطان نزولا على رغبة الرعية ويسكت الراوى وينصرف الدراويش كل إلى حال سبيله وهم يحمدون الله أن رءوسهم مازالت فوق أكتافهم !