في ذروة انحيازها السافر للرأسمالية المتوحشة، تمضي الحكومة المصرية في تفكيك ما تبقى من العقد الاجتماعي الذي تأسست عليه دولة يوليو، متذرعة بضرورة "تصحيح تشوهات السوق"، بينما تتغافل عن التشوّه الأخطر: تقنين الظلم وإضفاء شرعية قانونية على سياسات إقصائية لا ترى في المواطن سوى عبء على الميزانية أو مستأجرًا غير مرغوب فيه. في هذا السياق، جاء مشروع قانون الإيجارات القديمة، لا بوصفه حلًا متوازنًا لعلاقة تاريخية شائكة بين المالك والمستأجر، بل كأداة تصفية طبقية بامتياز، تُنذر بتشريد ملايين المصريين، غالبيتهم ممن كانوا يمثلون قلب الطبقة الوسطى — الطبقة التي كانت، ولا تزال، العمود الفقري لأي دولة حديثة.
هذا القانون، بصيغته المطروحة، لا يُعالج خللًا بقدر ما يُعيد إنتاج الظلم في ثوب جديد: فهو ينحاز بشكل فج إلى مصالح فئة من "الملاك الجدد"، لم يبنِ أغلبهم العقارات محل النزاع، بل حصلوا عليها إما عبر الميراث، أو عبر صفقات غامضة، أو عبر وضع اليد، لا سيما في أحياء وسط القاهرة، كالزمالك، جاردن سيتي، وباب اللوق. ولا يُخفى على أحد أن كثيرًا من هذه العقارات كانت مملوكة لأجانب، غادروا مصر عقب العدوان الثلاثي عام 1956 أو نكسة 1967، ومن بينهم قطاع من يهود مصر، الذين هجّرتهم الظروف السياسية والاجتماعية المعقدة. وقد آلت هذه الممتلكات، في كثير من الحالات، إلى أفراد أو أسر بطرق لم تخضع لمراجعة تاريخية أو قانونية عادلة. هؤلاء، الذين حصلوا على الملكية بيسر، يطالبون اليوم باسترداد ما لا يُسترد: عقود إيجار قانونية، أُبرمت في ظل قوانين سارية وبرعاية الدولة، وفي زمن كانت فيه الدولة هي الطرف الثالث الضامن والمشرّع والمُنظّم.
أما المستأجرون، فهم ليسوا محتلين للشقق كما يُصوَّرون في الخطاب الإعلامي المتواطئ، بل دفعوا خلوات ضخمة كانت توازي أو تتجاوز قيمة الشقة حينها، في وقت لم يكن التمليك شائعًا، بل كان الإيجار هو الشكل الغالب لعقود السكن. وكان ذلك بموافقة الطرفين، وبرضى المالك، وبرعاية الدولة التي ثبّتت الأسعار، وقدمت تسهيلات في مواد البناء، وأسعار الأراضي، والضرائب العقارية، كجزء من مشروع اجتماعي يضمن السكن كحق، لا كامتياز طبقي.
وإذا كانت الحكومة ترى أن من حق المالك أن يُنصف، فهي حرة في موقفها، لكن ليس من حقها أن تُنصفه على حساب طرف آخر كان ضحية سياساتها لعقود، وساهم بصبره وتضحياته وموقعه المتواضع في بناء مجتمع ما بعد الاستقلال — مجتمع التعليم المجاني، والرعاية الصحية، والتدرج الطبقي الصاعد — ذاك المجتمع الذي يُدفن اليوم بهدوء تحت أنقاض ما يسمى ب"التحرر العقاري"، دون حتى عزاء قانوني أو إنساني.
والأدهى، أن مشروع القانون المطروح لا يلتزم حتى بحكم المحكمة الدستورية العليا، التي أقرت بإمكانية تحريك القيمة الإيجارية بنسبة معقولة تراعي مصلحة المالك، لكنها حذّرت في الوقت نفسه من المساس بالامتداد القانوني لعقود الإيجار، وهو امتداد سبق أن حصّنته المحكمة ذاتها بأحكام نهائية. ومع ذلك، تُقدَّم الآن صيغة تشريعية تجهز على هذا الامتداد، دون انتقال مرحلي حقيقي، أو آليات تعويض أو دعم أو حتى بدائل إنسانية تحفظ للمتضررين الحد الأدنى من الكرامة.
إن ما يُطرح اليوم لا علاقة له بعدالة توزيع الأعباء، بل هو ترجمة حرفية لتحالف غير معلن بين السلطة والمال العقاري، تسعى من خلاله الدولة لتحرير أصول عقارية مجمدة، ولو على حساب ملايين من المصريين الذين لا يملكون سوى سقف ورثوه أو استأجروه بعقد موثق، وبثقة في الدولة وقوانينها. والأخطر من كل ذلك، أن هذا التوجه يُقصي الطبقة الوسطى التي كانت العمود الفقري للدولة الحديثة، من حقها في السكن الآمن، بعد أن أُقصيت من التعليم العام والصحة المجانية والعمل المستقر.
تلك الطبقة التي أنجبت العلماء والمثقفين والمهنيين وأرباب الحرف النزيهة، باتت تُعامل اليوم كعبء تاريخي يجب التخلص منه، وتُحمَّل وحدها كلفة تحرير السوق، بعد أن حُمِّلت من قبل كلفة تحرير الاقتصاد في زمن الانفتاح السداح مداح. ختامًا: إن تمرير هذا القانون، بصيغته المجحفة، لن يُعيد الحقوق لأصحابها كما يُروّج، بل سيقوّض ما تبقى من الثقة في أن القانون أداة إنصاف، لا وسيلة لإقصاء اجتماعي مُمأسس. وسيدفع بالبلاد إلى مشهد اجتماعي بالغ الخطورة: طبقة قليلة تستأثر بالعقار، والسلطة، والقرار، وأغلبية مسحوقة تُزاحم في العشوائيات، وتُطارد على أبواب المحاكم. فهل ما زال في الدولة من يعي خطورة تقويض الثقة بين المواطن والقانون؟ ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار ال 24 ساعة ل أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري ل أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية. تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هنا تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هنا