على الرغم من مرور نحو ثلاثة أعوام على اندلاع ثورات الربيع العربي، بداية من تونس، ثم مصر وليبيا واليمن، والتي نجحت القوى الثورية في إسقاط رءوس أنظمتها الحاكمة، وما بين انهيار الأنظمة السابقة وبناء الأنظمة البديلة فهذه الدول تعيش المرحلة الانتقالية، التي تتسم بالتعقيد الشديد، وقد يحدث أن تدخل دولة مرحلة انتقالية ثانية، مثلما حدث في مصر. الثورات العربية عرفت من أين جاءت ولكنها لا تعرف إلى أين تسير، والانفلات الأمني يسود المراحل الانتقالية، وأيضا النزاع حول كتابة الدستور وعدم وضوح مفهوم العدالة الانتقالية، فهل تستمر المراحل الانتقالية إلى الأبد في عدة دول، طبقا لتوقع الباحث الامريكي فيليب شوميتر؟ المراحل الانتقالية في أعقاب الثورات العربية تسودها حالة انفلات أمني، فالأجهزة الأمنية تحاول استعادة السلطة المهدرة، لاسيما أن السبب الرئيسي في قيام كل هذه الثورات هو القمع الذي مارسته أجهزة الأمن على الشعوب العربية، وهو ما دفعها إلى القيام بالثورات. ففي تونس لا يزال الوضع الأمني هشا لاسيما في مناطق المرتفعات الوسطي غربا والتي يغيب فيها الأمن تماما وصارت وكرا للخارجين على القانون الذين يمارسون عنفًا ضد الشعب التونسي في غياب تام للشرطة التي لم يعد التونسيون يثقون فيها حتي الآن، لانهم يعتبرونها قوات ينبغي معارضتها، وهو وضع كان مشابها لما حدث في مصر، إلا أن الشرطة المصرية انحازت إلى الشعب قبل ثورة 30 يونيو، وكان لتحسن العلاقة بين الشرطة والشعب دور في سقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر. أما في ليبيا فلم تنجح الاجهزة الأمنية في إقناع عشرات الآلاف من الثوار المسلحين في التخلي عن أسلحتهم، وصارت ليبيا ساحة حرب بين مجموعة جماعات قبلية وبعض الميليشيات المسلحة التي تصفي حساباتها مع أنصار القذافي، والتي دخلت في صراع على السلطة، وهو ما أضعف الأداء الأمني الليبي. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل إنه تم استهداف بعض الشخصيات الكبرى والرموز الأمنية كاغتيال العقيد فرج الدرسي، ثم الهجوم على مقر السفارة الأمريكية بنغازي، وقتل السفير الأمريكي وثلاثة من أعضاء السفارة. أما في المرحلة الانتقالية باليمن، فعقب سقوط نظام الرئيس السابق على عبدالله صالح وتولي الرئيس الجديد عبد ربه منصور هادي السلطة، فقد بدأ فترة حكمه بإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية بسبب ضعف السيطرة على المناطق النائية باليمن أعقاب الثورة، إلا أن تلك الهيكلة لم تحل المعضلة الأمنية، ففي الشمال عزز الحوثيون من سيطرتهم على المناطق بشكل أوسع، أما في الجنوب فتواجه حكومة اليمن تحديات الحراك الشعبي والجماعات المسلحة المرتبطة به، كما لوحظ زيادة انتشار تنظيم القاعدة بعد زيادة انصار الشريعة في اليمن، ويحاول جيش اليمن التصدي لضربات القاعدة، وقد نجح بشكل كبير في شل حركتها، إلا أن المخاطر لا تزال قائمة. وكما واجهت بلدان الربيع العربي خلال مراحلها الانتقالية انفلاتا أمنيا فقد واجهت أيضا أزمات اقتصادية طاحنة، كان النصيب الأكبر منها لمصر واليمن وتونس نهاية بليبيا التي كانت اقل نصيبا، فشهدت المراحل الانتقالية ضعفًا في معدلات النمو، وارتفاع معدلات البطالة، وتفاقم حالة الفقر، وهناك 2 مليون تونسي تحت خط الفقر، ولعل الرابط المشترك بين دول الربيع العربي في المراحل الانتقالية التي أعقبت الثورات فيها هو انعدام الموارد الأساسية من السياحة بسبب الانفلات الأمني وقلة رءوس الأموال الاجنبية للاستثمار، وهو ما تسبب في عدم قدرة الحكومات الانتقالية على الاستجابة لمطالب شعوبهم والتي ثاروا في وجه حكامهم من أجلها. الرابط المشترك أيضا بين البلدان العربية في المراحل الانتقالية أن معظمها اضطر إلى طلب الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية "صندوق النقد الدولي" وهو ما فعلته مصر إلا أن الصندوق رفض، واشترط عدة شروط حالت دون الحصول على القرض، كما طلبت بعض الدول المساعدات من بعض الدول العربية النفطية على نحو ما فعلته دولة اليمن، حتى أن مجلس التعاون الخليجي افتتح مكتبًا في صنعاء لمتابعة المشروعات التي تحتاج إلى تمويل، كما أن ليبيا وضعت 200 مليون دولار في البنك المركزي التونسي لتدبير الموارد اللازمة للاستجابة لمتطلبات استعادة عجلة النشاط الاقتصادي، لكنها لا تزال متعثرة بحكم الاضطراب السياسي الذي تعيشه دول الربيع. وفيما يتعلق بكتابة الدستور في المرحلة الانتقالية، فقد واجهت مصر مشاكل كبيرة، بعد إعادة تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور أكثر من مرة، واختلاف القوى السياسية والوطنية على نسب تمثيل كل تيار بالجمعية، ورغبة جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تسيطر في ذلك الوقت في الحصول على أغلبية أعضاء الجمعية واضطر الرئيس المعزول محمد مرسي إلى تمرير دستور معيب يشوبه العوار سطره رجال التيار الإسلامي في مصر بعد انسحاب عدد كبير من الرموز الوطنية اعتراضًا على عدد من المواد وهو ما تسبب في حدوث حالة احتقان. في تونس تم تجاوز المسألة منذ الوهلة الأولي وتم اعداد الدستور أولا، إلا أنه لم يخل من الاختلاف حول النظام السياسي الجديد، هل يكون رئاسيا أم برلمانيا أم برلمانيًا معدلًا، وتعثرت كل من اليمن وليبيا في تسطير دستور جديد لها وسط اختلافات داخلية حتي الآن. وفيما يتعلق بالعدالة الانتقالية في المرحلة الانتقالية ففي مصر تم إسناد منصب مستشار الرئيس للعدالة الانتقالية، الذي كان يتولاه الدكتور محمد سليم العوا، المرشح السابق لرئاسة الجمهورية، وتم اسناد وزارة جديدة في حكومة الدكتور حازم الببلاوي إلى المستشار أمين مهدي العباسي، إلا أن الأمر لم يتعد كونه منصبا فقط خلال المرحلتين الانتقاليتين التي مرت بهما مصر بعد ثورة 25 يناير التي اسقطت الرئيس الأسبق مبارك وثورة 30 يونيو التي أسقطت الرئيس المعزول مرسي. اما في تونس تم كتابة قانون يسمي "تحصين الثورة" يدعو إلى إقصاء أنصار الرئيس السابق بن على عشر سنوات كما حدث في مصر من منع المنتمين إلى الحزب الوطني من ممارسة العمل السياسي نفس المدة، أما في ليبيا فقد صاغ المجلس الانتقالي قانون العدالة الانتقالية للتصدي للفترة ما بين بداية عهد القذافي حتي سقوطه إلا أنه لم يكن له أي وجود فعلي أو قيمة حقيقية ولم تتخذ أي خطوات لتنفيذه، وفي اليمن أعدت وزارة الشئون القانونية مشروعًا يسعى إلى تحقيق المصالحة الوطنية بين أفراد المجتمع، لكنها تحتاج إلى رؤية متماسكة وثقافة مجتمعية تتقبل التسامح عن جرائم الماضي. ولا تزال الفصائل الثورية ترهن الحوار الوطني بإقالة أقارب على عبدالله صالح، ومنهم قائد الحرس الجمهوري العميد أحمد على صالح، وابن عمه العميد يحيى محمد صالح أركان حرب قوات الأمن المركزي. والمؤكد أن دول الربيع العربي قد ادارت المراحل الانتقالية بتشابه كبير، مع اختلاف مسار كل مرحلة، وقد تحكمت فيها حجم التركة التي خلفتها الأنظمة السابقة لكل دولة، وغياب الرؤية وعدم الاعتماد على الكفاءات تسبب في فشل المراحل الانتقالية، كما أن أطماع تيارات سياسية بالانفراد بالسلطة تسبب في حالة من الشتات.