الزعامات لا تحددها صناديق الانتخابات فقط بل تعززها الظروف التاريخية والسياسية والمقومات الكاريزمية والقدرة على كسب عقول الجماهير وقلوبهم.. وفي سجل التاريخ زعامات منتخبة عديدة فضلت الانسحاب من المشهد السياسي قبل انتهاء فتراتها الرئاسية حفاظا على إنجازاتها وحب الجماهير لها أو شعورا بالندم على اقترافها خطأ في حق شعوبها أو إخفاقها في الوفاء بتعهداتها خلال حملاتها الانتخابية. وفي عصور مختلفة، شهدت أكبر الديمقراطيات في العالم موقفا قد يبدو للبعض منافيا للديموقراطية، وهو أن يتنحى رئيس الدولة أو رئيس وزرائها من منصبه قبل إكمال فترة ولايته، غير أن الأمر في عدد من تجارب الدول الكبرى بدا أكثر التزاما بالمبادئ والحريات، ولم يتسم بكونه انقلابا على الشرعية لأسباب متعددة يأتي في مقدمتها أن الحاكم لم يحظ بالقبول الشعبي بعد فترة قصيرة قضاها في منصبه، أو أنه أخل بالمبادئ والوعود التي قطعها على نفسه أمام الشعب خلال حملته الانتخابية. النمور الآسيوية أما ماليزيا فقد شهدت استقالة رئيس الوزراء الأسبق عبد الله بدوي عام 2009 من منصبه قبل أن يكمل مدة ولايته بعد نتائج هزيلة حققها الحزب التابع له في الانتخابات البرلمانية، ليحل محله نائبه ورئيس الوزراء الحالي نجيب رزاق، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع. وشهد عهد عبد الله بدوي زيادة الاستياء الشعبي من جراء الأزمات الاقتصادية والإخفاق الإداري لدرجة أن رئيس الوزراء الأسبق مهاتير محمد – الذي يعد باني نهضة ماليزيا الحديثة – وجه إليه انتقادات لاذعة. صانع نهضة إندونيسيا الحديثة وفي إندونيسيا تنحى الرئيس الراحل سوهارتو من منصبه بعد نحو شهرين من إعادة انتخابه من قبل البرلمان الإندونيسي في مايو 1998، فبعد سنوات تمكن خلالها سوهارتو من الارتقاء بالاقتصاد الإندونيسي، شهدت البلاد أزمة اقتصادية حادة في آواخر تسعينيات القرن الماضي تسببت في انهيار العملة الوطنية الروبية، مما حدا به لفرض حالة من التقشف أزعجت معارضيه، وبعد إعادة انتخابه في مارس 1998 خرجت مظاهرات حاشدة تطالب بإسقاطه، وتحولت العاصمة الإندونيسية جاكرتا لساحة احتجاج واسعة، الأمر الذي دفع سوهارتو للاستقالة من منصبه بعد 32 عاما في السلطة. ولعب سوهارتو دورا حاسما في القضاء على الشيوعية في بلاده؛ حيث قتل أكثر من مليون شخص عام 1967 وهو ما عزز التأييد الأمريكي له. وحرص سوهارتو على تدعيم علاقات بلاده مع الدول الأخرى وخاصة دول رابطة جنوب شرق آسيا - آسيان - والولايات المتحدة، وعزز الدور الذي تلعبه آسيان على الساحتين الإقليمية والدولية. وفي عام 1997 وافق سوهارتو على مطالب صندوق النقد الدولي بشأن تنفيذ برامج للإصلاحات الاقتصادية مقابل الحصول على دعم من الصندوق لمواجهة تداعيات الأزمة المالية التي ضربت اقتصاديات دول جنوب شرق آسيا ومن بينها إندونيسيا وتسببت في تدهور قيمة العملة الإندونيسية وهروب المستثمرين الأجانب. وفي يناير عام 1998 تصاعدت الاحتجاجات الشعبية ضد سوهارتو نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية وتدني قيمة العملة الإندونيسية.. ودعا المحتجون سوهارتو إلى الاستقالة. وفي مارس عام 1998 أعاد المجلس الشعبي الاستشاري الإندونيسي - مجلس الشورى - انتخاب سوهارتو لفترة رئاسية سابعة. وفي الثالث عشر من مارس عام 1998 اندلعت موجة احتجاجات واسعة النطاق ضد سوهارتو، الذي كان في زيارة لمصر في ذلك الوقت. وفي التاسع عشر من مايو عام 1998 أعلن سوهارتو أنه سيجري انتخابات رئاسية جديدة ولكنه لن يخوضها.