الحديث الذي يدور في مصر عن المصالحة هو في معظمه حديث عبثى وخبيث في نفس الوقت، هل تسمى مصالحة تلك التي تأتى على جثة الدستور والقانون؟ هل تسمى مصالحة تلك التي توافق على استمرار العنف الدينى والميليشيات الدينية وبث الكراهية؟ هل مصالحة تلك التي تحافظ على الأحزاب الدينية والشعارات الدينية والهوس الدينى واستخدام المساجد كمنابر سياسية؟ هل مصالحة التي تقام على جثة الدولة المدنية؟ هل مصالحة التي تأتى بالابتزاز والإرهاب ودماء الضحايا والتهديد المتواصل بإما أن تتركنى كما كنت وتعيد لى امتيازتى كتنظيم دينى أو سأغرق البلاد في الفوضى والعنف والخراب؟.. أي مصالحة هذه، إنها في الواقع ابتزاز وإرهاب وعقد هدنة مع الشيطان، هل عمليا يمكن عقد هدنة مع الشيطان؟.. نعم ولكن لابد أن ينتصر الشيطان في النهاية لأن الشيطان لا يهدأ أبدا، حدث ذلك من قبل أيام السادات في مقابل تأمين حكمه ضد اليسار وانتهت بنهاية حكمه نهاية مأساوية. وحدث في عهد مبارك باقتسام جزء من السلطة السياسية ومن كعكة الفساد مع شيطان التطرف نفسه، مع ترك معظم الكعكة لنظامه وكانت النهاية كارثية عليه وعلى مصر، حيث تمدد التطرف وتوحش وسقط هو سقوطا مذلا. والدرس المستفاد من التجربتين بأنه لا حلول وسط مع الإرهاب والتطرف، والحلول الوسط تعنى انتصار الإرهاب في النهاية. هناك بعض من وسطاء جهنم الذين يعرضون على الجيش تحالفا مع الإخوان يحفظ لكل منهما وضعه ومكانته وامتيازاته، وهذا بالضبط ما حدث في النموذج الباكستانى حيث يتبادل العسكر مع الإسلاميين المواقع واقتسام الفساد في لعبة القط والفار، انتخابات ثم انقلاب ثم انتخابات ثم انقلاب وهكذا، فمثلا في الفترة 1958-1971 حكم العسكريون: محمد أيوب خان وآغا محمد يحيى باكستان، ثم جاء مدنيون إسلاميون حتى انقلب عليهم ضياء الحق عام 1977 واستمر حتى عام 1988، ليحكم بعده الإسلامى نواز شريف، حتى انقلب عليه برويز مشرف عام 1999 وحكم حتى عام 2008، ليحل محله زوج بناظير بوتو الذي جاء فوزه تعاطفا مع زوجته المغدور بها، ليجيء بعده الإسلامى نواز شريف حاليا. نحن إذًا أمام نموذج فاشل لا يمت للديمقراطية ولا للاستقرار بصلة. وهناك من وسطاء جهنم ممن يشيرون على الجيش بإحلال التحالف مع السلفيين محل الإخوان حتى يستطيع الانتصار على الإخوان في المعركة، باختصار أصحاب هذه النصيحة الشيطانية يريدون التخلص من نموذج متطرف ومتخلف ليحل محله نموذج أكثر تطرفا وتخلفا سيقود الدولة بالتأكيد إلى الهاوية، وسيتم تقديم تنازلات لهم حتى تغرق الدولة. وهناك من وسطاء جهنم ممن يشيرون على الجيش بالمزايدة دينيا على الإخوان، بإظهار أن قيادة الجيش أكثر تدينا وتقوى وإسلاما من قيادات الإخوان وترجمة ذلك عمليا في مزيد من الأسلمة على كافة المستويات، ولعل الذين كتبوا الإعلان الدستورى الحالى سلكوا نفس الطريق، وهو طريق كارثى سلكه مبارك وانتصر التطرف عليه في النهاية بحكم أن الأكثر تطرفا هو الذي ينتصر دائما في سوق الدولة الدينية. هناك أيضا من يقول إن قدرنا في مصر أن نعيش مع قدر من التطرف طالما ظل في الحدود التي يمكن احتمالها، هذا الرأى الساذج يفترض أن التطرف شيء ساكن، التطرف في منتهى الديناميكية وينمو بمعدل سريع طالما كانت هناك البيئة الحاضنة له، والتعايش معه بهذه الطريقة يشبه معالجة السرطان بأقراص الإسبرين. هناك رأى آخر يقول إن الدخول في هذه المعركة سينتج عنه دماء كثيرة لا تتحملها البلاد في الوقت الراهن وقد تتحول المواجهة إلى حرب أهلية، في تقديرى أن هذا الرأى مبالغ فيه جدا، حيث إن الجدية في التعامل مع التطرف ستقلص بدرجة كبيرة الاستنزاف اليومى الذي يحدث حاليا، علاوة على أن أي تضحيات حاليا هي شيء يسير جدا مقارنة بالضريبة الثقيلة المدفوعة في ظل وجود هذا التطرف. إن أفضل الفترات التي عاشتها مصر في هدوء واستقرار وسلام هي تلك السنوات التي تم فيها التعامل بحزم مع هذه التنظيمات المتطرفة، خذ مثلا سنوات إبراهيم عبد الهادى باشا بعد مقتل النقراشى باشا وتعامله بحزم وقوة مع تنظيم الإخوان، ثم السنوات التي أعقبت محاولة اغتيال عبد الناصر عام 1954 وكذلك التي أعقبت إعدام سيد قطب عام 1966، ولم تنعم مصر بهدوء بقدر ما نعمت في هذه الفترات. إن موقف الجيش عام 2013 هو أفضل وأقوى من موقفه عام 1954، حيث إن أغلبية الشعب المصرى حاليا وراءه عكس عبد الناصر الذي كان في بداية حكمه وقتها، كما أن الناس رأت بالفعل حكم الإخوان وجربته وذاقت من ويلاته، علاوة على أنه بعد إسقاط هذا النظام الفاشى ظهر الوجه الإرهابى القبيح لهذا التنظيم الذي نادت قياداته بأن عودة مرسي دونها الرقاب،أي أن مرسي في كفة والشعب المصرى كله في كفة، مع تهديد وتنفيذ هذا التهديد فيما طالته يداهم من المصريين، بالإضافة إلى تفجير العنف والإرهاب في سيناء وتهديد الأمن القومى المصرى بشكل خطير وغير مسبوق. نحن إذًا أمام لحظة تاريخية فريدة ربما لا تتكرر مرة أخرى، ومحاولة بعض سماسرة الخراب تضييع هذه الفرصة على مصر هو في الحقيقة عمل عدائى ضد مستقبل البلد، وعلى الجميع إدراك أن متطلبات القيادة الناجحة في بعض الفترات الحرجة هي قدرتها على اتخاذ قرارات جريئة مؤلمة من أجل تقليص الخسائر في المستقبل إلى أقصى مدى.. نحن إذًا نحتاج إلى قائد ناجح وشجاع يستطيع قراءة التاريخ جيدا والبدء على الفور في جراحة اجتثاثية للخلايا السرطانية قبل استفحال المرض وعدم القدرة على علاجه، فهل يكون السيسى هو ذلك القائد الشجاع الواعى المدرك لمتطلبات اللحظة؟... نأمل ذلك.