تحت ضغط تباريح الألم قررت التوجه إلى طبيب الأسنان، ارتديت ملابسى بما فيها البالطو الأسود الذى جاءنى هدية من أحد الأصدقاء الموجودين بالخارج. ولففت الكوفية المنقوش عليها الأحرف الأولى من اسم حبيب قديم قد رحل كان قد أهداها إلىّ قبيل الرحيل، ووضعت صحيفة اليوم التى لم أقرأها تحسبًا لطول الانتظار فى عيادات الأسنان فى جيبى، أغلقت الباب خلفى، وهبطت الدرج مسرعًا، صوت الرياح الباردة يعوى، وبقع الضوء الذابلة التى تسقط من أعمدة الإضاءة المتباعدة لا تكاد تنير الطريق، يلف الكون سكون غريب مع أن الوقت ليس متأخرًا إلى هذا الحد. انحرفت يمينًا محاولًا الالتصاق بجدر المنازل تفاديًا لمقاومة الريح، وما أن وصلت إلى الشارع الرئيسى حتى رأيت سيارة متلكئة تبحث عن راكب ضل به الطريق، توقفت أمامى فدلفت بداخلها مسرعًا، الجو بداخلها دافئ، وهناك أغنية لأم كلثوم تنساب إلى المسامع فتخدرها بالذكريات التى تجر الخاطر إلى ماضٍ قد ولى، كنت أشير للسائق يمنة ويسرة حتى وصلت إلى العيادة فنقدته الأجرة ونزلت، دلفت إلى الداخل، ألقيت التحية وجلست . أخرجت الصحيفة والنظارة وأخذت أتصفح الأخبار، تشاغلت عن الجالسين فى انتظار الدور بالتدقيق فى القراءة، تناهى إلى سمعى صوت أنثى لم أميز مقولته، فألقيت بعينى إلى مصدره فأخذت منى تلابيب قلبى أخذًا، فنزعت عينى عن صاحبة الصوت وألقيت بها على سطور الصحيفة محاولا السيطرة على مصدر الزلزال الذى تفجر بداخلى، لا أدرى إن كان لذلك انعكاس على ملامحى أم لا، إلا أننى حاولت السيطرة على الموقف، إنه الخوف من الجنون. ذكرى حب قديم تعل على تباريح آلامه عندما تهب ريحها من بعيد، فلا أجد لها مسكنًا غير الانزواء بعيدًا عن الكون لأبكى مجترًّا كل الذكريات، وأغسل آلامى بتلك الدموع، فقد كنت أتمنى رؤية الحبيب فى المنام بعد أن عزت رؤيته فى الواقع، وعندما أراه فى المنام أراه من ظهره وهو منصرف عنى بكليته دون حتى التفاتة، وعندما أناديه لا يرد علىّ كأنه لا يسمعنى، ولا أجد بدًّا من الانزواء، وظل الأمر هكذا حتى عزت الرؤيا فى المنام . هاجس بداخلى دفعنى إلى معاودة النظر إلى صاحبة الصوت الأنثوى، فوجدتها تصوب عينيها اللامعتين نحوى، تقاطع شعاع عينيها مع شعاع عينى فقطع عنى الحبل السرى، واندفعت دون إرادة منى إلى معترك الحياة، ابتسمت عيناها دون اكتراث بمن حولها، وابتسمت عيناى لابتسامتها، جاء دورها فنهضت ودلفت إلى غرفة جانبية، وأخذت معها شيئًا منى، تشاغلت بالصحيفة ونسيت تمامًا أوجاع ضرسى، وليت أوجاع القلوب كذلك تنتهى بالانتزاع مع استمرار الحياة، لا أدرى كم مضى من الوقت، إلا أنها خرجت مصوبة عينيها تجاهى، وأخذت طريقها إلى خارج العيادة، فنهضت بعد أن طويت الصحيفة، وأخذت طريقى خلفها، ناديت عليها هامسًا، إلا أنها لم تسمعنى، جرجرتنى من تلابيب قلبى، ناديت وهى منصرفة عنى بكليتها دون التفاتة، صرخت دون جدوى، فشعرت بيد على كتفى تهزنى بشدة، وصاحبها ينادى: استيقظ يا أبى، فقد تأخرت عن العمل.