يقولون: حورٌ في الغداة وجنةٌ وثمة أنهارٌ من الشهد والخمر إذا اخترتُ حوراء هنا ومُدامة فما البأسُ في ذا وهو عاقبةُ الأمر؟ هذه الكلمات تُشكّل واحدة من أشهر رباعيات الشاعر الفارسى المثير للجدل «عمر الخيام»،الذى يستضيفنى اليوم مشكورا فى عالمه،رغم أنه كان رافضا فى بادئ الأمر،لأسباب عديدة،من بينها أن الصحافة المصرية،حسبما فهمتُ منه، لا تتسع لمثل أفكاره وأطروحاته،التى قد تتصادم مع ما يعتبره ذوو العمائم وكهنة الدين معلوما بالضرورة،ففى هذه الرباعية مثلا،يندهش «الخيام» من تحريم شرب الخمر والتمتع بالنساء دون ضوابط فى الدنيا،وإباحتهما فى الجنة! لا أخفيكم سرا،أنه بعيدا عن التفسيرات الدينية سابقة التجهيز،والاتهامات الملفقة،التى يطلقها فى وجوهنا،من يتوهمون أنهم أشد إيمانا منا،وأنهم يملكون مفاتيح الجنة والنار،لمجرد أنهم طالعوا كتبا قديمة،فإن هذه الرباعية أربكتنى كثيرا،كما أربكتنى الرباعية التالية،التى يخاطب فيها «الخيام»، رب العزة،جلّ فى عُلاه،ملتمسا عفوه: إلهي.. قل لي: من خلا من خطيئة و كيف ترى عاش البريء من الذنب إذا كنت تجزي الذنب مني بمثله فما الفرق بيني و بينك يا ربي؟ الآن..أنا فى ضيافة «الخيام»،الذى أحسن استقبالى،وأثنى على فكرة «عودة الروح»،ثناء أسعدنى،غير أنى فى الوقت نفسه، لم أجد غضاضة فى رفض قدح من الخمر،التى لا يزال يدمنها،فلما سألنى عن سبب رفضى،رأيتُ أن أراوغه،فقلت له:حتى لا أفقد تركيزى أثناء إجراء الحوار معك،غير أن كلامى لم ينطل عليه،فباغتنى متسائلا:ولماذا لا تقول إنها حرام؟،فاستجمعتُ قواى سريعا،وسألته:وهل تجهل بعد حياة طويلة وممات أطول أن الخمر حرام،فصدمنى برباعيته التى تتصدر هذه السطور مجددا ،ثم:أردف: أطْفِئْ لظى القلب ببرد الشراب فإنما الأيام مثل السحاب ثم قال بعدها عندما لمس اندهاشى من كلامه وإصرارى على عدم قبول قدح الخمر: لم أشرَبِ الخمر ابتغاء الطرب ولا دعتني قلّة في الأدب ولكنّ إحساسي نزاعًا إلى إطلاق نفسي كان كلّ السبب قلت ل»الخيام» ساخرا:لك دينُك،ولى دينى،كما أننى لا أريد أن أنفق جل وقتى معك فى جدال لا يفيد،ولم آت إليك من عالم الحياة إلى عالم الموت،لأناقشك فى قضية تحريم الخمر أو إباحتها،وإن كنتُ أعلم من البداية أن الحوار معك سيبقى محفوفا بالمخاطر،ولكن أرجوك ساعدنى فى الحفاظ على ضوابط النشر فى الصحيفة التى أعمل بها،حتى لا يتدخل السدنة والكهان ،فيفسدوا الحوار،أو يطيحوا به،فتضيع على شخصى الضعيف فرصة نشر حوار مع «عمر الخيام»،فابتسم الرجل،وانبسطت اساريره، بعد تجهّم،قبل أن يباغتنى من جديد برباعية أخرى متمردة،ربما ظن أنها حكمة بليغة،أنشد فيها: لا تشغل البال بماضي الزمان ولا بآتي العيش قبل الأوان واغنم من الحاضر لذاته فليس في طبع الليالى الأمان فرددتُ عليه مُستعينا ببعض كلامه : نمضي وتبقى العيشة الراضية وتنمحي آثارنا الماضية فقبل أن نحيا ومن بعدنا وهذه الدنيا على ما هيه حينئذ..نظر «الخيام» إلىّ،ثم أزعجنى مجددا برباعية صادمة،قد تُخرج من يؤمن بها من الملة،فى عُرف المعممين ومن على دربهم،نصها: قُم قبل غارة الأسى مبِّكرَا وادع بها ورْديَّةً تجلو الدُّجَى فلستَ يا هذا الغبيُّ عسجدَا حتى تُوارى في الثرى وتُخرجا أصدقكم القول،لم يرق لى،هذه المرة، إنكار «الخيام» لقضية البعث بعد الموت،التى يطرحها فى الرباعية سالفة البيان،لكنى استجمعتُ قواى هذه المرة،ثم قلت له:وددتُ ألا يزال عقلك يدفعك إلى إنكار البعث بعد الموت،حتى بعد رحيلك عن الدنيا،فالذى خلق الناس من عدم، قادر على أن يُحيى العظام وهى رميم،فلم يأبه بمقاطعتى له،وأردف منشدا: ارضِ نفسك قبل أن ترضي الناس لا تُظهِر التقى واسخر من المتزهدين واعلم أنه ليس في العالم إنسانٌ كامل سألتُه سؤالا مُبطّنا بسخرية وسوء نية،وهو:ولا أنت؟ فأجابنى:ولا أنا. قلت:يبدو أنك لم تقنع بزخارف الدنيا،عندما كنت حيا،فرحت تنهل منها بعد وفاتك؟غير أنه قاطعنى قائلا: زخارفُ الدّنيا أساسُ الألم وطالبُ الدنيا نديمُ الندم فكن خليّ البال من أمرها فكلّ ما فيها شقاءٌ وهمّ قلت:باعتبارى ما زلت حيا،فكيف أتعامل مع تلك الدنيا التى لم ترق لك،رغم تمتعك بكل ما فيها؟ فأجاب: عِشْ راضيًا واهجر دواعي الألم واعدل مع الظالم مهما ظلم نهاية الدنيا فناء فَعِشْ فيها طليقًا واعتبرها «عدم» غضضتُ الطرف هذه المرة،عن إصراره على أن نهاية العالم فناء،لا حياة بعده،لكنى أردتُ أن أستعيد قيادة زمام الحوار من «الخيام»،الذى انتزعه منى،فسألته:كيف ترى تنازع المسلمين فى دينهم،واعتقاد كل طائفة أنها «الفرقة الناجية»،وما سواها فى النار؟ فأجابنى إجابة صادمة،وأكثر عمقا واتساعا من سؤالى الذى بدا ساذجا، أوجزها فى هذه الرباعية: حار الورى ما بين كُفْرٍ ودين وأمعنوا في الشكّ أو في اليقين وسوف يدعوهم مُنادي الردى يقول: ليس الحقّ ما تسلكون! لم أجد مفرا من حالة الإرباك التى وجدتُ نفسى فيها،سوى استئذان «الخيام» لأداء صلاة المغرب فأذن،ولما انتهيتُ عدتُ إليه مُترددا،ثم قلتُ له:فلتدع الشعر جانبا،وتحدثنى عن بداياتك،حتى صرت إلى ما صرت إليه؟ فأجاب:كنتُ أدرس مع صديقين حميمين، وتعاهد ثلاثتنا على أن يساعد من يؤاتيه الحظ الآخرَينِ، وهذا ما كان، فلما أصبح صديقى «نظام الملك»، وزيراً للسلطان «ألب أرسلان»، ثم لحفيده «ملكشاه»، خصِّصَ لى مائتين وألف مثقال،كنتُ اتقاضاها من بيت المال كل عام، من خزينة نيسابور، ما ضمن لى العيش في رفاهية و ساعدنى على التفرغ للبحث والدراسة. قلتُ:وهل أنفقت عمرك كله فى «نيسابور»؟ فاجاب: عشتُ معظم حياتى في «نيسابور» و«سمرقند»، وكنتُ أتنقل بين مراكز العلم الكبرى مثل: «بخارى» و«بلخ» و«أصفهان»،من أجل التزود من العلم وتبادل الأفكار مع العلماء، وهكذا صار لى الوقت الكافي للتفكير بأمور وأسرار الحياة، بعد أن توفّرت لى أسباب المعيشة. قلت:ومن كان الصديق الثالث؟فأجاب: «هو الشاعر «حسن الصباح»، مؤسس طائفة «الحشاشين». قلت:حققت معظم شهرتك من الشعر،فهل لم يكن لك صنعة غيره؟ فأجاب:العكس هو الصحيح، بل كنتُ أبرز علماء عصرى فى الرياضيات،فأنا أول من اخترع طريقة حساب المثلثات ومعادلات جبرية من الدرجة الثالثة بواسطة قطع المخروط، و أول من استخدم الكلمة العربية «شي» التي رسمت في الكتب العلمية البرتغالية (Xay) ،وما لبثت أن استبدلت بالتدريج بالحرف الأول منها «x» الذي أصبح رمزاً عالمياً للعدد المجهول ،و برعتُ في الفلك أيضاً؟ قلت:وما إسهامك فيه؟ فاجاب «الخيام»:وضعتُ تقويما سنوياً بالغ الدقة،بناء على طلب من السلطان ملكشاه سنة 1074 م وقال عنه «سارطون» إن تقويم الخيام كان أدق من التقويم الجريجوري. قلت:فلنعد مجددا إلى رباعياتك،باعتبارها السبب الأهم فى بقاء شهرتك حتى الآن؟ فأجابنى «الخيام»:كنتُ أتغنى بها فى أوقات فراغى،فقلتُ:ولكنك مُتهم بأنك دعوت من خلالها إلى التحلل من كل ما حرم الله،فما قولك؟ حينئذ..قاطعنى محتدا: لا تنس أنك تحدث «الخيام»،وكن ودودا فى أسئلتك،ولا تضع نفسك موضع من يحاسبنى،فاعتذرتُ منه،فأردف بعدها قائلا:إذا كان هناك فريق يرى أن فى أشعارى دعوة إلى معصية الله،فإن فريقا آخر يرى أنها تنادي إلى التمتع بالحياة والدعوة إلى الرضا أكثر من الدعوة إلى التهكم واليأس،ثم ما يدريك أن تلك الرباعيات،التى بين أيديكم،جميعها من إبداعى،فلا تنس أن بعضا من أشعارى ضاع،وبعضا منها أفسدته الترجمة،وبعضا ثالثا نُسب إلىّ بهتانا وزورا. قلت:كيف؟ فأجاب «الخيام»:اقرأ ما كتبه عنى المستشرق الروسي «زوكوفسكي»،الذى أثبت أن كثيرا مما نُسب إلى من الرباعيات لا يخصنى،كما أن بعضا ممن كتبوا عنى يرون أننى عالم جليل وذو أخلاق سامية،فقلت:ولكن إجاباتك مراوغة،غير قاطعة ولا حاسمة. فنظر إلىّ نظرة لم تخلُ من سخرية،ثم تساءل:وأى أمر حاسم فى حياتنا؟،ثم أنشد: أفنيتُ عمري في اكتناه القضاء وكشف ما يحجبه في الخفاء فلم أجد أسراره وانقضى عمري وأحسست دبيب الفناء ثم أردف: لبستُ ثوب العمر لم أُسْتَشَرْ وحرت فيه بين شتّى الفكر وسوف أنضو الثوب عني ولم أدركْ لماذا جئتُ أين المقر قلت:وماذا أيضا يا «خيام»؟ فأجاب: الفناء السريع للشباب والحياة أمر كان ولايزال يزعجنى،ثم أنشد: تناثرت أيّام هذا العمر تناثر الأوراق حول الشجر فانعم من الدنيا بلذّاتها من قبل أن تسقيك كفّ القدر قلتُ:مثلك تموج نفسه بأطروحات وإشكاليات كثيرة،خاصة فيما يتعلق بالعقل واليقين والعقيدة،أليس كذلك؟فقال:بلى،فهناك أمور كثيرة كانت تزعجنى كقضية «الحساب»،ثم أردف: كان الذي صورني يعلم في الغيب ما أجني وما آثم فكيف يجزيني علي أنني أجرمت والجرم قضا مبرم؟ غير أنه سرعان ما استدرك،وكأن ومضة إلهية هبطت عليه،وألهمته رشدا، فقال: بيني وبين النفس حربٌ سجال وأنت ياربي شديدُ المحال أنتظرُ العفو ولكنني خجلانُ من علمك سوء الفعال قلت: حسن،فهذا اعتراف منك أنك لم تمت ملحدا كما يروج المغرضون،فقاطعنى برباعية بها ابتهال إلى بارئه: إن لم أكن أخلصتُ في طاعتك فإنني أطمعُ في رحمتك وإنما يشفعُ لي أنني قد عشتُ لا أشرك في وحدتك فأدمعت عيناى،وقبل أن أقول شيئا،إذ به يكمل: يا من يحار الفهمُ في قدرتك وتطلب النفس حمي طاعتك أسكرني الاثمُ ولكنني صحوتُ بالآمال في رحمتك حينئذ،ارتفع أذان العشاء،فاتكأ «الخيام» على كتفىّ،وقال:هيا بنا نصليها فى جماعة،وبعد أن فرغنا من الصلاة،إذ بالخيام يرفع يديه إلى السماء،مُرددا: يا عالم الأسرار علم اليقين يا كاشف الضرّ عن البائسين يا قابل الأعذار فئنا إلى ظلّك فاقبل توبة التائبين ثم أعقبها بدعاء وتوسل نصُّه على ما أذكر: «اللهم إنك تعلمُ أني عرفتُك على مبلغ إمكاني، فاغفر لي، فإن معرفتي إياك وسيلتي إليك». وبينما كنتُ أودع «عمر الخيام»،شاكرا له هذا اللقاء،الذى أرهقنى أيما إرهاق،إذ به يعظنى قائلا: صاحب من الناس كبار العقول واترك الجُهّال أهل الفضول واشرب نقيع السمِّ من عاقلِ واسكُب على الأرض دواء الجَهول وما إن خطوتُ عدة خطوات بعيدا عنه،إذ بضجيج أزعجنى،فالتفتُّ خلفى،لأجد «الخيام» يُحطّم أقداح الخمر،التى كان يحيط بها نفسه،واستنكر رفضى لإحداها فى مستهل الحوار. C.V عاش «غياث الدين أبو الفتوح عمر بن إبراهيم الخيام»، المعروف ب«عمر الخيام» بين عامى «1048 – 1131«ميلاديا، و«الخيّام».. لقب والده، حيث كان يعمل في صُنع الخيام. وُلِدَ «الخيام» في مدينة نيسابور،ويوصف بأنه عالم وفيلسوف وشاعر فارسي مسلم، ويذهب البعض إلى أنه من أصول عربية. تخصَّص في الرياضيات، والفلك، واللغة، والفقه، والتاريخ،وهو أوّل من اخترع طريقة حساب المثلثات ومعادلات جبرية من الدرجة الثالثة بواسطة قطع المخروط . كان لعمر الخيّام حضور جيد ولافت في التراث العربي القديم، ربما لأنه كان من أصحاب اللسانين الفارسي والعربي. أتقن «الخيام» اللغة العربيّة وتعلم بها وعلّم، وحاور بعض علماء عصره كالزمخشري والغزالي وناظرهم ،وكتب بها معظم مؤلفاته العلمية والفلسفية، وترجم منها إلى الفارسية خطبة لابن سينا، فضلاً عن أنه نظم بها شعراً، ولو قليلاً. لم يشتهر الخيّام قديماً بأنه شاعر، لا بما نظم من رباعيات بالفارسية لأنها باعتراف نفر من الباحثين والعلماء الإيرانيين المعاصرين أنفسهم من مثل: ذبيح الله صفا وجلال الدين همائي وعلى دشتي ومحمد علي فروغي وقاسم غني كانت قليلة، ولا بشعره العربي القليل جداً؛ بل اشتهر كثيراً وعرف بعلوم الحكمة التي كانت تضم - آنذاك - الفلك والرياضيات والنجوم والطبيعيات والفلسفة وما يرتبط بها جميعاً.. مؤلفاته باللغة العربية:شرح ما أشكل من مصادرات كتاب أقليدس، الاحتيال لمعرفة مقداري الذهب والفضة في جسم مركب منهما، وفيه طريقة قياس الكثافة النوعية،ورسالة في الموسيقى. لم يفكّر أحد ممن عاصره في جمع الرباعيات، فأوّل ماظهرت عام 865 هجريا، أي بعد رحيله بثلاثة قرون ونصف، وأوّل ترجمة للرباعيات كانت للغة الإنجليزية، وظهرت سنة 1859ميلاديا، أما الترجمة العربية من الفارسية فقام بها الشاعر أحمد رامي، وهناك ترجمة أخرى للشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي. عاش عمر الخيام 83 عاما،وتوفى عام 1131 ميلاديا ودُفن في نيسابور .