مصر لها تاريخ مشهود في الحرائق، والقاهرة تحديدا كان لها النصيب الأكبر، والتاريخ المعاصر يرصد لنا أحداثا مذهلة منذ حريق القاهرة الذي اندلع في 26 يناير 1952 في عدة منشآت في القاهرة. وخلال ساعات قلائل التهمت النار نحو 700 محل وسينما وكازينو وفندق ومكتب ونادٍ في شوارع وميادين وسط المدينة... وبعدها بحوالى عقدين من الزمان وأيضا في 17، 18 يناير عام 1977 جاء حريق القاهرة الثانى، الذي جاء في أعقاب مظاهرات أدت إلى إحراق العديد من المنشآت الحكومية وعشرات الباصات الخاصة بالنقل العام.. وجاء الحريق الأخير في يناير أيضا أثناء أحداث ثورة 25.... وبغض النظر عن الأسباب، فإن القصة الأساسية التي نتحدث ونبحث فيها هي الحرائق باعتبارها المحور الأساسي في مختلف الأحداث.. ففى كل مرة تكون الخسائر بالمليارات، فضلا عن خسائر تاريخية وإنسانية لا تقدر بثمن، مثل ما حدث في المجمع العلمى، أو بوسط القاهرة، أو حريق دار الأوبرا المصرية في العتبة. الواقع أننا أمام معضلة تحتاج فعليا إلى تكاتف جهود جميع أجهزة الدولة ومؤسساتها؛ فالقاهرة تحتوى على تراث إنسانى وحضارى معظمه إما غارق في غياهب العشوائية مثل الكثير من المناطق في القاهرة الفاطمية، أو سقط في دوائر السهو والنسيان من كثرتها مثل الكثير من القصور والمبانى التاريخية التي تزخر بها مصر. إن التخطيط العمرانى الحديث يمكن أن يتلافى الأخطاء السابقة، سواء توفير الطرق الممهدة لتوصيل أدوات وسيارات الإطفاء في الوقت المناسب إلى مكان الحرائق، أو مراعاة المحددات التصميمية الواجب اتباعها لإنجاح تطبيق عوامل الأمن والسلامة الخاصة بمقاومة عناصر إنشاء المبنى للحريق للحد من وقوعه وانتشاره. ولكن كيف يكون الأمر لو حدث مكروه لا قدر الله في منطقة بوسط القاهرة الفاطمية، التي حولها الباعة وعمال الورش والمخازن إلى سوق مفتوحة تهدد أغلى ما تملكه مصر من آثار إسلامية بالدمار أو الاحتراق في أي لحظة، فهناك جامع "الغورى" الذي يعتبر من أهم المساجد الأثرية التاريخية بشارع المعز لدين الله الفاطمى، التي اختفت معالمه تحت أكشاك البائعين.. و"سبيل محمد على" الذي أنشأه محمد على باشا كصدقة على روح ابنه طوسون، ومسجد "المؤيد شيخ"، ومسجد "إسلام بن نوح"، وهى كلها أماكن أثرية، وجامع "الفكهانى".. وآثار سوق المغربلين، وباب زويلة، والمنطقة الواقعة عند جامع "مراد باشا" الأثرى، حيث ينتشر الباعة والسريحة. وفى شارع أمير الجيوش، حيث يوجد كتاب وسبيل الغمرى الذي اختفت ملامحه تماما في ظل غيبة الرقابة والمتابعة. هذه المناطق وغيرها الكثير تحتاج إلى إعادة نظر واتباع طرق علمية منهجية في كيفية التعامل مع وقوع أي حوادث أو حرائق فيها، خاصة أن بعضها قد تضر به استخدام المياه والبعض الآخر قد تضره استخدام الرغاوى، وهكذا فنحن أمام حالات فردية وخاصة جدا في التعامل معها. لعل الأزمة الأكبر تتلخص في إيجاد الوعى العام للحفاظ على تلك الآثار، والثانى إيجاد الطرق والمنافذ التي يمكن أن تصل من خلالها سيارات الإطفاء في الوقت المناسب للسيطرة على الحريق، بالإضافة إلى ذلك يجب أن يكون هناك لجنة عليا مشكلة من أعضاء في وزارة الآثار والداخلية ومن مهندسين متخصصين لوضع تصور شامل لتلك المناطق، على أن يتم دراسة كل منطقة على حدة وبما يتناسب مع ظروفها التاريخية والإنشائية في الوقت الحالي. كما يجب رفع كفاءة أداء المبانى حال حدوث الحريق، وذلك من خلال تطبيق المحددات التصميمية لعوامل الأمن والسلامة، وإعداد الدراسات المعمارية لإمكانية تحقيق التصميم الآمن، وتجزئة المبنى إلى مساحات ليظل تحت السيطرة دون أن ينهار خلال المدة المتوقعة للحريق. وإيجاد فواصل تعمل تلقائيًا عند حدوث الحريق، وهي عبارة عن حوائط رأسية مقاومة للنيران. وتركيب أبواب مقاومة للحريق، خاصة لمخارج الهروب والفراغات الخطرة... ما نسعى إليه من وراء هذا الجهد هو مجرد إشارة تحذير، لمخاوف نأمل من الله ألا نراها في مصرنا.