يزخر التاريخ الإسلامى بالعديد من نماذج العلماء الربانيين الذين زهدوا في الدنيا ومتاعها وزخرفها خوفا من يوم الحساب ورغبة وحبا في الله وطمعا في أن يغفر الله لهم ويدخلهم جنات النعيم، فضربوا أروع الأمثال في تلقى العلوم الشرعية والإعراض عن الخطايا والشهوات والملذات وكان همهم الأول الاستعداد ليوم الرحيل والوقوف أمام مالك الملك يوم لا ينفع مال ولا بنون، وتقديم ما ينفع الناس ويمكث في الأرض الغزالي.. الباحث عن الخلود من هؤلاء العلماء الزهاد أبو حامد محمد الغزالى الذي ولد عام 450 ه، في الطابران ب« طوس» - في إيران حاليا- وكانت أسرته فقيرة الحال، إذ كان أبوه يعمل في غزل الصوف وبيعه في طوس، ولم يكن له أبناء غير أبى حامد، وأخوه أحمد والذي كان يصغره سنا. بدأ الغزالى طلبه للعلم في صباه، فأخذ الفقه في طوس على يد الشيخ أحمد الراذكاني، ثم رحل إلى جرجان وطلب العلم على يد الشيخ الإسماعيلي. كما رحل الغزالى إلى نيسابور ولازم إِمام الحرمين أباالمعالى الجوينى «إمام الشافعية في وقته، ورئيس المدرسة النظامية»، فدرس على يديه مختلف العلوم. وكان الجوينى يظهر اعتزازه بالغزالي، حتى جعله مساعدًا له في التدريس، وعندما ألف الغزالى كتابه «المنخول في علم الأصول» قال له الجويني: «دفنتنى وأنا حي، هلا صبرت حتى أموت؟». ظل الغزالى يبحث عن الحقيقة بعد أن عَمَرَ نور الإيمان قلبه، فنظر في مذاهب عصره، مستقلًا بمنهجه في البحث عن غيره؛ إذ أراد أن يرتفع بالحقيقة من حضيض التقليد إلى الاستبصار، إلى أن انتهى إلى أن الصوفية هم أرباب الحق، مبينًا أن حاصل علمهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة؛ حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله. أقام الغزالى تصوفه على دعائم من الفقه وعلم الكلام معًا، واضعًا نُصب عينيه موافقة عقيدة أهل السنة والجماعة، ومحاربة كل انحراف عنها، كالنزعات «الغنوصية» على اختلافها، والتي تأثر بها فلاسفة الإسلام، والإسماعيلية من الشيعة، وإخوان الصفا وغيرهم. وغلب الطابع النفسى والخلقى على تصوف الغزالي، وربما كان ذلك بسبب تأثره ببعض متصوفة القرنين الثالث والرابع الهجري، كأبى طالب المكى والحارث المحاسبى والجُنَّيد، وتبين له أن ما وصل إليه هؤلاء أنه لا مطمع في سعادة الآخرة إلا بالتقوى وكف النفس عن الهوى، ورأس الأمر عندهم هو قطع علاقة القلب عن الدنيا، بالتجافى عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بالهمة على الله. يرى الغزالى أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة أن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، وذلك لأنَّ حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسةٌ من نور النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به. يرى الغزالى وجوب الاشتغال بطب القلوب، إذ لا يخلو قلب من علة لو أهملت لتفاقمت وكانت سببًا في هلاك الإنسان؛ لذلك فالكشف عن هذه العلل والعمل على علاجها من أوجب الأمور، وهو تحقيق قوله تعالى «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا» (9)، الشمس، وأما من يهمل ذلك فقد صدق فيه قوله تعالى «وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» (10)، الشمس. ويرى الغزالى أنَّ على المريد أن يلتزم شيخًا يقتدى به، حتى لا يضيع في سبل الشيطان المتعددة، وفى هذا يقول «وليتمسك بشيخه تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد، بحيث يفوض أمره إليه بالكلية ولا يخالفه». كما ألزم الغزالى الشيخ بالنظر في أمر المريدين، واستطلاع أخلاقهم وأدوائهم، واختيار ما يناسب كل منهم مما تراض به نفوسهم، ويصلح به أحوالهم، وإلا كان سببًا في هلاكهم وإماتة قلوبهم. يرى الغزالى أن أداة المعرفة الصوفية هي القلب وليس الحواس، ولا العقل والقلب عنده ليس هو العضو المعروف، الموجود في الجانب الأيسر من صدر الإنسان، وإنما هو الخليقة الربانية الروحانية التي هي حقيقة الإنسان. والكشف المباشر عند الغزالى يقابل الاستدلال العقلي، فبعض القلوب تحصِّل المعرفة بالإلهام الإلهى مبادأةً ومكاشفةً، وبعضها يحصِّلها بالتعلم والاكتساب. ويقول الغزالي: «صارت شهوات الدنيا تجاذبنى سلاسلها إلى المقام ومنادى الإيمان ينادي: الرحيل، الرحيل، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العمل والعلم رياء وتخييل، فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى تستعد؟ وإن لم تقطع الآن فمتى تقطع؟». يحيى بن معاذ.. حكيم الزمان ومن أعلام التصوف والزهد أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازى الذي خرج إلى بلخ، وأَقام بها مدَّة، ثم انتقل إلى نيسابور فسكنها وبها مات في جمادى الأولى258 ه. وقال الخطيب البغدادى في «المتفق والمفترق» عنه أنه: كان حكيم زمانه، دوَّن الناس كلامه، وجمعوا ألفاظه، كما قال السُّلَمى في «طبقات الصوفية»: أحد الأوتاد، وكان أوحد وقته في فنه، وقال عنه ابن النديم في «الفهرست»: كان من الزهاد المتهجدين. وقال عنه الذهبى في «تاريخ الإسلام» وفى كتابه «العبر في أخبار من غبر»: «يحيى بن معاذ الزاهد العارف كان عابدًا صالحًا حكيم زمانه وواعظ عصره»، وقال عنه القزوينى في «آثار البلاد وأخبار العباد»: كان شيخ الوقت وصاحب اللسان في الوعظ والقبول عند الناس، كما قال في «هدية العارفين»: «الزاهد الواعظ من رجال التصوف». ومن أقواله: «الصبر على الخلوة من علامات الإخلاص»، و«ثلاث خصال من صفات الأولياء: الثقة بالله في كل شيء، والغنى به عن كل شيء، والرجوع إليه في كل شيء»، و«أحسن شيء كلام صحيح، من لسان فصيح، في وجه صبيح، وكلام دقيق، يستخرج من بحر عميق، على لسان رجل رفيق». ذو النون المصري.. الموحد الصوفي كما تشمل القائمة أيضا ثوبان بن إبراهيم، وكنيته «أبو الفيض» ولقبه «ذو النون المصري»، وهو أحد أعلام التصوف في القرن الثالث الهجرى ومن المحدثين الفقهاء. ولد ذو النون في أخميم بصعيد مصر سنة 179 ه، وتلقى علومه في بلاد النوبة، وتعرف على مناهج التفكير كلها، وعندما بلغ سن الشباب ألمّ بكثير من العلوم، فحفظ القرآن الكريم، وتعرف على المذاهب المختلفة وتأثر بموطأ مالك، وتتلمذ على مشايخ معروفين في عصره أهمهم الإمام مالك بن أنس وإسرافيل العابد المغربى وفاطمة النيسابورية التي لقيها في مكة. ذهب إلى مكة والشام، ثم عاد به المطاف فاستقر في الجيزة وراح يعقد في المسجد حلقات علم وكتب العديد من المؤلفات أشهرها كتاب الركن الأكبر، وكتاب المجربات، وكتاب العجائب، وأشعار في حجر الحكماء وحل الرموز وبرء الأرقام في كشف أصول اللغات والأقلام وهو من ضمن العلماء العرب الذين سبقوا شامبليون في فك رموز الأبجدية الهيروغليفية. ومن أقواله: «إن لله عبادا تركوا المعصية استحياءً منه بعد أن كانوا تركوها خشية منه؛ ألا إن حب الله عز وأمل وحب غير الله خزى وخجل». ويعد ذو النون المصري، أول من غرس جذور التصوف في مصر، ويقال إنه أول من تكلم من الصوفية عمومًا في علوم المقامات والأحوال، فقال عنه الجامي: «وكان ذو النون المصرى رأس الصوفية وأول من استعمل رموز الصوفية فرارًا من اعتراض المعترضين» غير أن ذا النون كان معتدلا في تصوفه، وكان لا يتحدث عن الاتحاد والوصول بقدر ما يتحدث عن المعرفة الإلهية، بالإضافة لذلك كان بارعا في الكيمياء ويقال إنه استطاع فك بعض رموز البرديات في أخميم. مالك بن دينار نابغة عصره ويعد مالك بن دينار، وهو أبو يحيى مالك بن دينار البصري، من أعلام التابعين واشتهر عنه نبوغه في العلم والزهد والتصوف، وولد في أيام عبد الله بن عباس، وسمع من أنس بن مالك في بلاده، واستشهد به البخاري. وكان أبو يحيى البصرى من الذين اشتهروا بالزهد، وكثرة الورع حتى بات مضرب المثل في ذلك، وقدوة السالكين في طريق جهاد النفس والهوى، والقدرة على تخطى العبودية لشهوات الدنيا وملاذها. وكان على غاية القناعة والرضا بالقسمة بعيدًا عن الشبهات، وورعًا من أن يناله الإثم عن طريق المال؛ لذا كان حريصًا على أن يأكل من كسب يده، فيكتب المصاحف بالأجر، ويرضى بالقليل عملًا بسنة الأنبياء، وما رغب به رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. كما كان يبتغى الوصول إلى المعرفة الحقة وهى معرفة الله عز وجل، وقال: خرج أهل الدنيا من الدنيا، ولم يذوقوا أطيب شيء فيها، قالوا: وما هو يا أبا يحيى؟ قال: معرفة الله. أما عن صلته بالقرآن الكريم: فحملت إلينا كتب التراجم الكثير الطيب من ذلك مصداقًا لقوله تعالى: «إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون»، ومما قاله في ذلك: «إن الصديقين إذا قرئ عليهم القرآن طربت قلوبهم إلى الآخرة» ثم قال: خذوا فيقرأ ويقول: اسمعوا إلى قول الصادق من فوق عرشه. وكان من الطبيعى أن يسائل نفسه ويسائل حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبهم، ماذا أثمر من الخير الذي ينعكس على جوارحهم وسلوكهم وإلى أي مدى كان قائدهم إلى الجنة، والقرب عند الله عز وجل. عبد القادر الجيلانى صاحب 13 علمًا ومن بين العلماء الذين زهدوا في متاع الدنيا أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله، ويلقب في التراث المغاربى بالشيخ بوعلام الجيلاني، وبالمشرق عبد القادر الجيلاني، ويعرف أيضا ب«سلطان الأولياء»، وهو إمام صوفى وفقيه حنبلي، وإليه تنتسب الطريقة القادرية الصوفية. ولد عبد القادر الجيلانى في 11 ربيع الثانى سنة 470 ه في جيلان بالعراق وهى قرية تاريخية قرب المدائن، ونشأ في أسرة صالحة، فكان والده أبو صالح موسى معروفا بالزهد وكان شعاره مجاهدة النفس وتزكيتها بالأعمال الصالحة ولذا كان لقبه «محب الجهاد». كان الشيخ عبد القادر عالما متبصرا يتكلم في 13 علمًا من علوم اللغة والشريعة. ويشمل منهجه في التربية الاتصاف بصفات أساسها المجاهدة، والتحلى بأعمال عشرة هي: لا يحلف المتعلم بالله عز وجل صادقا ولا كاذبا، وأن يجتنب المتعلم الكذب هازلا أو جادا، وأن يفى بما يعد، وأن يعمل على ترك الوعد أصل، وأن يجتنب لعن أي شيء من الخلق، وأن يجتنب الدعاء على أحد، وألا يشهد على أحد من أهل القبلة بشرك، وأن يجتنب النظر إلى المعاصي، وأن يجتنب الاعتماد على الخلق في حاجة صغرت أو كبرت، وأن يقطع طمعه من الآدميين، والتواضع الذي به تعلو المنزلة. ومن أقول الجيلاني: «أخرجوا الدنيا من قلوبكم إلى أيديكم فإنها لا تضرُّكم»، وقال: «كلَّما جاهدتَ النفسَ وقتلتها بالطاعات حييت وكلَّما أكرمتها ولم تنهها في مرضاة الله ماتت» قال وهذا هو معنى حديث «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». كما قال: «لقمة في بطن جائع خير من بناء ألف جامع وخير ممن كسا الكعبة وألبسها البراقع وخير ممن قام لله راكع وخير ممن جاهد للكفر بسيف مهند قاطع وخير ممن صام الدهر والحر واقع، وإذا نزل الدقيق في بطن جائع له نور كنور الشمس ساطع فيا بشرى لمن أطعم جائع».