لا تقتصر الحروب على الدموي منها في ساحة المعارك، وإنما قد تقام معركة كبرى على الأوراق البيضاء، بسيوف الأقلام وعتاد الحبر، ليسجل عليها تاريخ معركة ثقافية بين قامتين أدبيتين، هما عميد الأدب العربي طه حسين، وعباس محمود العقاد. تبدأ جولات تلك المعركة من خمسينيات القرن الماضي، عندما أصدر العقاد كتابه عن "أبي نواس"، لتدور على صفحات هذا الكتاب معركة قاسية بينه وبين العميد. مغالاة في "أبي نواس" فقد رأى طه حسين أن العقاد غالى غلوًا شديدًا في حديثه عن النرجسية على مذهب المحللين النفسانيين، إذ ذكر من مذاهبهم وتجاربهم فنونًا توشك أن تلحق كتاب العقاد بمكتب العلماء لولا أنه ليس له معمل أو مستشفى يجري فيهما التجارب كما يجريها العلماء، وليس أمامه مرضى أحياء يُجري عليهم هذه التجارب كما يجريها العلماء.. وأضاف طه حسين أن أبا نواس لم يعتدّ بنفسه أكثر مما اعتدّ شعراء كثيرون في أمم كثيرة بأنفسهم. وهذا الاعتداد شرط أساسي للتجويد الفني، لأن أبا نواس لو لم يعتدّ بنفسه وفنه، لم يحفل بالشعر ولم يتأنق فيه، ولم يُحسن الحكم عليه. سياسة حسن الجوار وردّ العقاد على طه حسين في حدود المعقول والمقبول، ففنّد ما ورد في مقال طه حسين دون أن يتعرض لشخصه أو يسفّ في عباراته مراعيًا باستمرار سياسة «حسن الجوار» التي حكمت في البداية علاقتهما. رسالة الغفران على أن الصدام بين العقاد وحسين كاد يحدث حقيقة على أرض الواقع، حين كتب العقاد عن الخيال في رسالة الغفران فقال: "أما أن يُنظر إليها كأنها نفحة من نفحات الوحي الشعري على مثال ما نعرف من القصائد الكبرى التي يفتن في تمثيلها الشعراء والقصص التي يخترعونها اختراعا، ويُنظر إليها كأنها عملا من أعمال توليد الصور وإلباس المعاني المجردة لباس المدركات المحسوسة، فليس ذلك حقا وليس في قولنا هذا غبن للمعري أو بخس لرسالة الغفران، كلا ولا هو مما يُغضب المعري أن يُقال هذا القول في رسالته". وأضاف العقاد في رسالته: "إن رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية وأسلوب شائق ونسق طريف في النقد والرواية وفكرة لبقة لا نعلم أن أحدا سبق المعري إليها، اللهم إلا إذا استثنينا محاورات لوسيان في الأولمب والهاوية، وفذلكة جامعة لا شتات من نكات النحو واللغة. ذلك تقدير حق موجز لرسالة الغفران". استفزاز طه حسين تلك الرسالة استطاعت استفزاز طه حسين المعروف بهدوء أعصابه، فكتب يقول: "ولكن الذي أخالف العقاد فيه مخالفة شديدة هو زعمه في فصل آخر أن أبا العلاء لم يكن صاحب خيال حقا في رسالة الغفران، هذا نُكر من القول لا أدري كيف تورط فيه كاتب كالعقاد. نعم إن العقاد كاتب ماهر يُحسن الاحتياط لنفسه، فهو بعد أن أنكر الخيال على أبي العلاء المعري عاد فأثبت له منه حظا قليلا، ولكنه يستطيع أن يخدع بهذا الاحتياط قارئا غيري، أما أنا فلن أنخدع له، فهو ينكر على أبي العلاء أن يكون شاعرا عظيم الحظ من الخيال في رسالة الغفران، (سنة سودة) كما يقول العامة، وهل يعلم العقاد أن دانتي إنما صار شاعرا نابغة خالدا على العصور والأجيال واثقا من إعجاب الناس جميعا بشيء يشبه من كل وجه رسالة الغفران هذه، أستغفر الله إن من الأوروبيين الآن من يزعم أن شاعر فلورنسا قد تأثر بشاعر المعرة قليلا أو كثيرا".