يومًا تلو الآخر يتلقى البسطاء من أبناء هذا الوطن الصفعة تلو الأخرى من حكومة تؤكد سياستها أن شغلها الشاغل أصبح تحميل الفقراء ما لا يطيقون، إلا أن "ملح الأرض" يأبون أن يذوبوا في أنهار الظروف الصعبة التي تحيق بهم، ويقفون بصلابة ليشعلوا شمعة يضئ شعاعها الخافت نفق حياتهم الذي أظلمه ارتفاع جنوني لأسعار المنتجات والسلع الحيوية وتدني المستوي المعيشي وتراجع في كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية. داخل غرفة صغيرة لا تزيد مساحتها عن الثلاثة أمتار في جبل «زرزارة» أو «تبة فرعون» بمنطقة الدويقة؛ اعتاد حسن أحمد، صاحب الثمانية والثلاثين عامًا، الجلوس لساعات متواصلة تاركًا أنامله تداعب قطعة خشبية صماء، أتقن منذ الصغر نقشها ثم تطعيمها بالفضة ليبدل سكونها الموحش إلى حروف ورسومات ترقص أعين عشاق الجمال فرحًا عند لقياها. "حسن النقاش"؛ هكذا يلقب أهالي زرزارة صانع الصدف، فهم يعرفون أنه أحد أمهر المتخصصين في هذه المهنة، ويفتخرون بقدرته الفائقة على تصنيع ذلك الصندوق الخشبي المعروف ب"الشكمجية"، ويحفظون عنه أغنية الفنان مدحت صالح التي لا يمل من ترديدها "النور مكانه في القلوب". "حسن" يعشق صناعة الصدف، للحد الذي جعله يأتي بمن يقطتع له 3 أمتار من الغرفة ذات الأمتار العشرة التي تأويه وأطفاله الثلاثة وزوجته؛ ليشيد له ورشة يمارس بداخلها مهنته الأحب؛ واصفًا هذا الفعل بقوله: "الورشة دي شعاع الأمل اللي مخليني صابر على الحياة غير الآدمية اللي إحنا عايشينها.. لما الدنيا بتضيق بجري على الورشة وأمسك حتة خشب وأقعد أنقشها وأطعمها بالفضة؛ في اللحظة دي بس بنسى كل همومي وبحس إني طاير في ملكوت تاني وبقعد أغني بعلو صوتي: النور مكانه في القلوب.. أحضن خيوط شمس الغروب.. يا تكون أد الحياة.. يا تعيش وحيد وسط الدروب". "صانع الشكمجية"؛ يسرد تفاصيل وقوعه أسيرًا في شباك عشق هذه المهنة بقوله: "والدي علمني الصنعة دي وأنا عندي 10 سنين، وكانت أول جملة قالهالي وإحنا في الورشة اللي كان شغال فيها في خان الخليلي: لو عايز تتعلم المهنة؛ خلي روحك هي اللي تنقش وتطعم قبل إيدك، وإلا ما فيش حد هيشوف جمال صنعتك، أوعى تخلي الحياة اللي عايشنها تقتل روح الفنان جواك؛ خلي الفقر والحرمان دايمًا دافع للنجاح، وبالفعل عملت بنصيحته ولما لقيت نفسي بقدر أحول الخشب والمعدن لتحفة فنية تخصصت في صناعة الشكمجيات". "حسن".. كان يقطن مع زوجته وأبنائه الثلاثة، في منزل مستأجر بجوار مسكن والده بمنشية ناصر؛ وحين ساءت ظروفه المادية اضطر إلى تركه والاستقرار داخل غرفة تبلغ مساحتها 10 أمتار؛ واصفًا السنوات الأربعة التي مرت عليه منذ إقامته في هذا المكان بقوله: "أول ما قامت ثورة يناير السياحة اضربت وحركة الشغل وقفت، وقعدت في البيت عواطلي لمدة سنة، وإخواتي اتحملوني كتير وفي الآخر لما حسيت إن الحال مش هيتظبط أخدت مراتي وعيالي وجينا أخدنا أوضة هنا.. كان نفسي أسكنهم في أي مكان تاني بس أعمل إيه ما باليد حيلة". "صانع الشكمجية"؛ يلخص مطالبه من الحكومة بقوله: "مش عايز أشوف ولادي زيي، أنا مش طالب أكتر من أربع حيطان يحسسوا ولادي إنهم بني آدمين.. ليه يلعبوا في التراب ويشوفوا الزبالة في كل مكان؟ ذنبهم إيه يناموا كل ليلة وهما مرعوبين من التعابين؟ نفسي يتعلموا ويعيشوا حياة كريمة وما يشفوش اللي أنا شوفته". على بعد أمتار من "صانع الشكمجية"، تراه واقفًا ممسكًا بورقة دغدغ بياضها حروف مصيره المحتوم.. شفتاه موصدتان ترفضا أن تسمحا لأثير الكلمات بالوصول إلى الأذان ويكفي أن تنظر في عينيه لتعرف ما ألم به وتدرك أن القدر يأبى أن يكون رحيمًا به، ويرفض أن يتركه ومعاناة مقاومة ثقل جبال الفقر التي حطت فوق كاهله، ومرار العيش داخل غرفة لا تصلح للحياة الآدمية، وأصر أن يبتليه فوق كل هذا بمرض أنهك جسده النحيل واختطف من فوق وجنتيه الابتسامة، وبدل ريعان شبابه بكهولة احتاج معها "سيد ثابت" - ذلك الشاب الذي لم يكمل ربيعه السابع والعشرين - لمن يأخذ بيده ويرعى شئونه. "سيد ثابت"؛ "صنايعي" أدوات منزلية، كان يواصل الليل بالنهار في عمله داخل إحدى الورش بمنطقة منشية ناصر، ليوفر لزوجته التي ارتبط بها منذ عام حياة كريمة، وفجأة وبعد مرور أربعة شهور من زفافه توقفت عقارب الزمن، وسقط مغشيًا عليه وحين أفاق وجد نفسه داخل مستشفى غير مصدق لتلك الكلمات التي ينقلها له الطبيب: "أنت مصاب بفشل كلوي وللأسف في مرحلة متأخرة؛ ومش هتقدر تشتغل تاني، ولا تمارس حياتك بصورة طبيعية". "سيد"؛ أصيب بهذا المرض اللعين، جراء تراكم السموم داخل جسده نتيجة المياه الملوثة التي يشربها في مسكنه بمنطقة جبل زرزارة – وفقًا لما أثبتته نتائج الفحوصات والتحاليل التي أجراها له الأطباء - وأصبح منذ سبعة شهور عاجزًا عن القيام بأي شيء سوى الحركة الخفيفة خارج جدران غرفته، وبات معتمدًا في توفير نفقات حياته على المساعدات التي يقدمها له أهل الخير. "سيد".. كان على موعد مع السعادة ولكنه تأجل إلى الأبد، ففي الوقت الذي علم فيه أن زوجته حامل في الشهر الأول، وشعر أن ضيق غرفته في زرزارة أصبح فضاء رحبًا، صعقه نبأ مرضه وتبدلت ملامح وجهه الشاب إلى شيخ بلغ من العمر أرذله؛ وصار مشغولًا بشيء آخر يصفه في قوله: "مراتي سافرت لأهلها في المنيا عشان تولد، وأنا مش عارف مين اللي هيرعي ابني بعد ما بقيت عاجز عن الشغل ومش قادر حتى أوفر مصاريفي أنا ومراتي". "سيد".. أصبح فاقدًا لمصدر الدخل، وغير قادر على العمل، وهو ما دعا جيرانه وأهل الخير إلى جمع مبلغ مادي له وإقامة كشك صغير يعينه على توفير قوته هو وزوجته، إلا أن مسئولي حي منشية ناصر لم يتركوه وحاله وسارعوا بإزالة الكشك بحجة أنه مخالف لاشتراطات البناء، ولم يوافقوا على بنائه مرة أخرى إلا بعد تجمهر الأهالي أمام مقر الحي. "سيد".. يوجه صرخة للمسئولين، يناشدهم فيها بكلمات ممزوجة بالدموع: «أنا عارف إن الشكوى لغير الله مذلة؛ بس ياريت ما تبقوش أنتوا والمرض عليا، أنا مش عايز غير شقة في أي مكان بعيد عن هنا؛ وأي مشروع أعيش منه.. جيراني جمعوا مع بعض وبنولي دكانة وأهي مقفولة من يوم ما اتبنت لأني مش معايا فلوس أجيب فيها بضاعة؛ وحتى المعاش مقدم عليه من 6 شهور وما فيش حد راضي يسأل فيا أو يعبرني.. في طفل جاي في الطريق ياريت ما تحكموش عليه يعيش جوه سجن الفقر طول عمره».