ومازال الحديث متواصلا مع قراء فيتو في رحاب هذه المجموعة من التراجم لمشاهير أعلام المسلمين عبر التاريخ، للعظة والعبرة من حياة هؤلاء الرجال الذين قدموا الكثير والكثير للأجيال المتعاقبة من بعدهم.. حيث تم جمعها وانتقاؤها من مصادر عدة، ومواقع متفرقة.. وقد شملت هذه التراجم العالم والفقيه والزاهد والواعظ والمحدث والمفسر والمؤرخ والطبيب والداعية، والمرشد والمجاهد...إلخ. 17- الإمام الشافعي.. «شمس الدنيا وعافية البدن»
في غزة بأرض فلسطين سنة 150ه، وضعت (فاطمة بنت عبد الله الأزدية) مولودها (محمد بن إدريس الشافعي) في نفس العام الذي توفي فيه الإمام (أبو حنيفة) ليموت عالم ويولد عالم، يملأ الأرض علمًا ويحيي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلتقي الشافعي مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجدِّ الأعلى.. إنه إمام العباقرة، وعبقري الأئمة، له في العلم سبب، وفي البيت نسب، وفي المروءة حسب..
سالت قريحته فتفجرت أنهار الحكمة من على لسانه، وساقت رياح التوفيق سحب علمه فسألت أدوية بقدرها . ذاكرته أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين.. الشافعي أخذ من الأثر روحه، ومن الفقه خلاصته، ومن البيان ناصيتة ومن الشعر حلاوته، ومن المجد ذروته.
قعّد للعلماء القواعد فغضب عليه أعداء الشريعة لأنهم رضوا بأن يكونوا مع القواعد، فخَرَت به قريش، وتبجحت به العراق، وخرجت إليه مصر، حاور محمد بن الحسن فقطع أزراره، ورد على المريسي فأطفأ ناره، وجاور أحمد فشكر جواره.
الشافعي لدنيا العلوم شمس، ولأبدان الأخبار عافية، ولليل المدلهم قمر، في الشرع شعرُه، في الحق بذلُه، للآخرة طلبُه، لله سعيه، لما خرج إلى البلاد لبست بغداد الحداد وأمست في سواد.
الألفاظ سكر، والقصد نضيد، حفر لحدًا للملاحدة، وعزل في زنزانة الإحباط المبتدعة، ورد الأباطيل في جوه أهل التعطيل، إن سألنا عن أهل الكلام فالجريد والنعال . وأهل السنة: رواد الجنة . والفلاسفة: أهل سفه . ومالك: نجم الممالك.. وأحمد بن حنبل: زرع سنبل.
أتاه المال ففر منه إلى العلم، وأتته الدنيا فهرب إلى الآخرة تعلم الفراسة في اليمن، فكشف أهل الزيغ والأفن، تدجج بالحجج فألحم الدجاجلة، وصال بالأصول على أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم.
درس الطب فمرض جسمه، وداوى الناس فزاد غُنمه.. المروءة عنده ولولا الشعر بالعلماء يزرى، التواضع: أحب الصالحين ولست منهم. كان مما يميزه التفرد، ومنقبته التجرد، تفرد في الفهم، فعصر من زهر الذهن رحيقاً، وتجرد للحق فنسج من بز الشريعة ثوباً سابغاً.
فاح طيب ذكره في الأنوف، فيا فرحة من شم، وهزم الباطل فكأنه شم عطر منشم، الشافعي شهاب ثاقب أُحرقت به شياطين الإنس ولهم عذاب واصب ... يا ابن إدريس أيا الشهم الأجلّ أنت سيف الحق في العلياء سُلّ... مسكين من جادل الشافعي وناظره، مسكين من عارضه وكابره، مسكين من عرفه وما ذاكره.
درس محمد بن إدريس علوم محمد صلى الله عليه وسلم فترك علماً لا يغسله الماء ولا تطفئه الريح ولا يلفه الظلام، ولا ينسيه الدهر، الرسوخ في يسر، العمق في سهولة، الأصالة في إشراق، البراعة في نصوع.
أهل فارس يعرفونه، وأهل الصين يذكرونه، وأهل الأندلس يمدحونه، وأهل الباطل يبغضونه.
إذا مرجت الآراء بزغ رأي الشافعي كالنجم الثاقب، إن تكلم أسكت الخطباء، وإن أنشد صمت الأدباء والبلغاء، أحب الملة فأمهرها روحه، وعشق العلم فأعطاه عمره، وأخلص للرسالة ففاضت لها نفسه، فهو عاشق المُثُل، سامي المقاصد، رجل المروءات، ناشر السنة بين أهلها، وناصرها على أعدائها، وحافظها لمحبيها، وشارحها لناقليها. «وإن تفق الأنام وأنت منهم... فإن المسك بعض دم الغزال»
ورث أنوار الرسالة، فألف للأمة الرسالة، مات أبوه فكفلته الأم، فقدم للناس كتاب الأم، إذا نطق الشافعي فكأن السيل أقبل، والفجر بزغ والنور سطع، صحة مخارج، حلاوة لفظ، قوة حجة، براعة دليل، سلامة إنشاء (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) [الجمعة: 4]
في الفقه إمام، في النقل حجة، في النسك علَم، في اللغة أستاذ في الذكاء آية.. سرت به أمة من غزة فسبحان الذي أسرى، وعاش في مكة لينفع أم القرى .
الشافعي لم يستند إلى النسب ولو أنه مُطلّبيّ، ولم يتكل على الجاه فهو أبيّ، ولكن أخذ بأسباب الخلود، وهجر أسباب الفناء، فأمات في حياته النفس الأمارة، وأحيا بوفاته النفس المطمئنة، فنوديت (ارجعي إلى ربك راضية مرضية) [الفجر: 27]. إذا كانت الحياة بالبساط والسياط والسلطة والسطوة فأين أصحابها بعد موتهم (هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً) [ مريم: 98].
عنده اتباع الأثر عبادة، الوقوف مع النقل عقل، توقير الصحبة عقيدة، رد الشُبَه جهاد، تعليم الناس ربانية، ترك المعاصي هجرة، أهل الحديث رؤوس، المبتدعة سفلة، علم الكلام غي، المنصب ذُل، الدنيا دنيئة. بدا إلى البادية فهذّ شعر هذيل، كان رأسا وسواه ذيل، احتسى علم مالك، ومص فهم أبي حنيفة، وجمع بين النثر والشعر، والرواية والدراية والعقل والنقل.
الشافعي عروبة حجازية، وفصاحة عراقية، ورقة مصرية، أعجب ما فيه روح التجديد في المذهب القديم، وقدم التأصيل في مذهبه الجديد، سخر الشعر للشريعة، والنحو للوحي، والرأي للرواية، التعليل للتأويل، حملته الهمة فأضناه الطلب، وخلع الدنيا فليس تاج القبول، خاف الدنيا والدنايا، وجانب الشيطان والشر والشهوة والشبهة.
إن خطب أطنب وأطرب، وأتى بكل أطيب.. وإن أفتى شفى وكفى وأوفى . فلج خصوم الإسلام، ونكس رايات الأقزام وأبقى ذكره للأيام، دمغ الضلال، واكتسح الجهال، (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) [إبراهيم: 46].
انكسر به ظهر الجبرية، وثلم به قدر القدرية، وأخرجت حججه شبه الخوارج، واهتز في يده سنان السنة... فرضي الله عن تلك الأرواح، وجمعنا بهم مع أهل العلم والصلاح.. قال له الإمام مالك: إن الله تعالى قد ألقى في قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية، واتق الله فإنه سيكون لك شأن!!
فتح الشافعي عينيه على الحياة، فلم يجد والده بجانبه، حيث مات بعد ولادته بزمن قصير، فنشأ يتيمًا، لكن أمه الطاهرة عوضته بحنانها عن فقدان أبيه، وانتقلت به أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، ففيها أهله وعشيرته وعلماء الإسلام، وظلت تربيه تربية صالحة، وترعاه، وتأمل أن يكون من العلماء الصالحين؛ الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
حفظ الشافعي القرآن الكريم وسنه سبع سنين، ثم شرع في حفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه تشجعه وتشد من أزره وتحنو عليه، ولما كان الشافعي لا يقوى على دفع أجر المحفظ أو شراء الورق الذي يسجل فيه محفوظاته؛ كان يطوف شوارع وطرقات مكة يجمع قطع الجلود وسعف النخيل وعظام الجمال ليكتب عليها! !
وكما أتقن الشافعي تحصيل العلم أتقن الرمي، حتى كان يرمي عشرة سهام، فلا يخطئ في سهم واحد منها، ثم أرسلته أمه إلى قبيلة (هذيل) في البادية، وهي قبيلة معروفة بالفصاحة والبلاغة؛ فمكث بينهم سبع سنين يتعلم لغتهم، ويحفظ أشعارهم، حتى عاد إلى مكة فصيح اللسان، ينشد الأشعار، ويذكر الآداب وأخبار العرب إلى أن اتجه إلى طريق الفقه والحديث، فرحل الشافعي إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليلتقي بعالم المدينة الإمام (مالك بن أنس) إمام دار الهجرة، ولما التقي به قال له الإمام مالك: إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بالمعصية، واتق الله فإنه سيكون لك شأن.
وأخذ الشافعي بتلك النصيحة الغالية، فما مال إلى شرٍّ، ولا جنح إلى لهو أو مجون، بل كان قانعًا بما قسم الله له، يرضى بالقليل، ويقنع باليسير، ويزداد زهدًا كلما وقف على قيمة الدنيا، ويعيش في محراب الحق مسبحًا مناجيًا، يعبد الله بلسانه وقلبه، وظل الشافعي يتتلمذ على يد الإمام (مالك) حتى انتقل عالم المدينة إلى جوار ربه، لكن الشافعي رحل من بلد إلى أخرى، يتعلم على أيدي علمائها وشيوخها، فتعلم في العراق على يد (محمد بن الحسن) تلميذ أبي حنيفة وغيره، وهناك ظهرت صلابة الشافعي وقوته وقدرته على التحمل والصبر؛ حيث إن بعض الوشاة قد اتهموه عند أمير المؤمنين (هارون الرشيد) بالتشيع ومناصرة العلويين، ولكنه استطاع بثقته في الله ورباطة جأشه أن ينفي هذه التهمة عن نفسه.
ثم ترك بغداد إلى مكة حيث تعلم على يد (مسلم بن خالد الزنجي) و(سفيان بن عيينة) وفي الحرم المكي أخذ الشافعي يلقي دروسه، وحضر مجلسه أناس من جميع الأقطار والبلدان، والتقى به كبار العلماء وخاصة في مواسم الحج، ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة 195ه، وكان له بها مجلس علم يحضره العلماء يستزيدون من علمه، ويقصده الطلاب من كل مكان.
جاء الشافعي إلى مصر في عام 198ه، لينشر مذهبه فيها، وليبتعد عن جو الاضطرابات السياسية في العراق، وألقى دروسه بجامع (عمرو بن العاص) وأحبه المصريون وأحبهم، وبقي في (مصر) خمس سنوات قضاها كلها في التأليف والتدريس والمناظرة والرد على الخصوم ومن أشهر مؤلفاته: كتاب (الأم) في الفقه، وكتاب (الرسالة) في أصول الفقه، وهو يُعدُّ أول كتاب يُصنف في هذا العلم.
وقد لقي الشافعي تقديرًا كبيرًا من فقهاء عصره ومن بعدهم، سأل عبد الله بن أحمد بن حنبل والده عن الشافعي فقال: يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن.
وقيل فيه: ومَنْ يَكُ عِلمُ الشافعي إمَامهَ فمرتعه في باحة العلم واسع وكان أحمد بن حنبل - أحد تلاميذه - يحرص على ألا يفوته درس الشافعي، ويقول لأحد أصحابه: (يا أبا يعقوب، اقتبس من الرجل، فإنه ما رأت عيناي مثله) وكان صلى الله عليه وسلم سفيان بن عيينة) أستاذ الشافعي يستفسر منه عن بعض الأحكام الفقهية التي لم يقف عليها.
وكان الشافعي يقضي الساعات الطوال في دروس متصلة، ينتقل من علم إلى علم، يجلس في حلقته إذا صلى الفجر، فيأتيه من يريدون تعلم القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء طلاب الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا انتهوا جاء بعدهم من يريدون تعلم العربية والعروض والنحو الشعر، ويستمر الشافعي في دروسه من بعد صلاة الفجر حتى صلاة الظهر!!
وكما كان الشافعي فقيهًا ومحدثًا كبيرًا، كان أيضًا شاعرًا رقيقًا فاض شعره بالتقرب إلى الله، فها هو ذا يستغفر الله ويدعوه قائلا: ولما قَسا قَلْبي وضاقَتْ مذاهبي جعلتُ رجائي نحو عفوِك سُلَّمًا تعاظَمَني ذَنبْي فلمَّا قِرَنْتُهُ بعفْوِكَ ربِّي كان عفُوك أَعْظَما ويوصي الشافعي من خلال شعره بألا نرد على السفيه قائلاً: إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت فإن كلمته فرجت عنه وإن خليته كمدًا يموت ويصور عزة نفسه، وإن كانت ثيابه قديمه بالية، فتحتها نفس أبية عزيزة غالية لا مثيل لها فيقول: عليَّ ثياب لو يباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكْثَرا وفيهن نفسٌ لو يُقاسُ ببعْضِها نفوسٌ الورى كانت أجلَّ وأكْبَرا
ومرض الشافعي، وقربت ساعة وفاته؛ فدخل عليه أحد أصحابه وقال له: كيف أصبحت؟ فأجاب الشافعي: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقًا، ومن كأس المنية شاربًا، ولسوء عملي ملاقيًا، وعلى الكريم سبحانه واردًا، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها أو إلى النار فأعزيها.
وفاته: ومات الشافعي ليلة الجمعة من آخر رجب عام 204ه، وبعد صلاة العصر خرجت الجنازة من بيت الشافعي (بمصر) مخترقة شوارع الفسطاط وأسواقها، حتى وصلت إلى درب السباع؛ حيث أمرت السيدة نفيسة - رضي الله عنها - بإدخال النعش إلى بيتها، ثم نزلت إلى فناء الدار وصلت عليه صلاة الجنازة، وقالت: رحم الله الشافعي إنه كان يحسن الوضوء.