البخلاء من أكثر السير المليئة بالنوادر، والفكاهات، وذلك بسبب الحرص الشديد عند البخيل، وهو ما دفع الجاحظ إلى تصنيف مؤلفه الشهير «كتاب البخلاء» الذى جمع فيه أخبار هذه الطائفة من الناس، وروى فيه ما وقع منهم من نوادر وفكاهات. قال الجاحظ :إن رجلا بلغ فى البخل غايته ، وصار إماما فيه ، وكان إذا أمسك درهما ناجاه وخاطبه بهذا الخطاب: يا عزيز النفس، كم من أرض قطعت، وكم من كيس فارقت ، وكم من معدوم رفعت ، وكم من غنى أفقرت ، يا أحب من عينى ، لك عندى ألا تعرى وألا تكشف على أحد ابدا، ثم يلقيه فى كيسه ، ويقول اسكن باسم الله فى مكان لا تهان ولاتذل فيه، ولا تفارقه أبدا، وكان إذا أدخل درهما لم يخرجه من كيسه. يضيف: كان دائم الشجار مع أهل بيته، إذ كانوا يريدونه أن ينفق عليهم وهو يرفض التفريط فى دراهمه وذات يوم، ألحوا عليه كثيرا فى شراء طعام من السوق، فأخرج درهما واحدا، ومضى إلى السوق، وعندما وصل السوق وجد حواء (حاوى ثعابين) يطلق على نفسه ثعبانة من أجل درهم يحصل عليه من أحد المارة، فقال فى نفسه: هل أتلف شيئا تبذل من أجله النفس مقابل أكلة أو شربة ، والله إنها لعلامة من الله لى ، فرجع إلى أهله ورد الدرهم إلى كيسه، فكان أهله منه فى بلاء عظيم، وكانوا يتمنون موته للخلاص . وكان أحد البخلاء قرر أن يشترى دارا له، فصحبه سمسار ليريه إحدي الدور، فبعد أن تفقد الدار وحجراتها، وقف فى الشارع فمر به متسول يطلب منه حسنة، فقال له الله يحنن على الجميع، وأعقبه متسول آخر وقال له لك الله ، ومر ثالث فرد عليه، كلنا فى ضائقة ونطلب العون والمدد من الله، فنظر البخيل إلى السمسار، وقال له دار جميلة، فى بقعة هادئة، ولكن عيبها كثرة السائلين، فأجابه السمسار، وماذا يضرك أنت منهم طالما أنك تحفظ تلك الجمل التى تصرفهم بها، فمضى الرجل وتركه ولم يشتر الدار. وكان أبو هذيل أهدى إلى مويس دجاجة، وكانت دجاجته التى أهداها دون ما كان يتخذ مويس من هدايا، ولكنه بكرمه وبحسن خلقه أظهر التعجب من سمنها وطيب لحمها، وكان يعرف "أبو هذيل" بالإمساك الشديد، فقال أبو هذيل لمويس " وكيف رأيت يا أبا عمران تلك الدجاجة؟" قال: " كانت عجبا من العجب"، فأضاف: " وتدري ما جنسها؟" وتدري ما سنها؟ فإن الدجاجة إنما تطيب بالجنس والسن، وتدري بأي شيء كنا نسمنها؟ وفي أي مكان كنا نعلفها؟ فلا يزال في هذا، والآخر (أي مويس) يضحك ضحكا نعرفه نحن، ولا يعرفه أبو هذيل. وكان أبو هذيل أسلم الناس صدرا، واوسعهم خلقا، وأسهلهم سهولة، فإن ذكروا دجاجة قال:" أين كانت يا أبا عمران من تلك الدجاجة التى أهديتك إياها ؟" فإن ذكروا بطة أو عنافا أو جزورا أو بقرة قال:" فأين كانت تلك الجزور في الجزر من تلك الدجاجة في الدجاج؟"، وإن استسمن أبو هذيل شيئا من الطير والبهائم قال:" لا والله ولا تلك الدجاجة؟"، وإن ذكروا عذوبة الشحم قال:" عذوبة الشحم في البقر والبط وبطون السمك والدجاج، ولا سيما ذلك الجنس من الدجاج"، وإن ذكروا قدوم إنسان قال: " كان ذلك بعد أن أهديتها لك بسنة، وكان بين قدوم فلان وبين البعثة بتلك الدجاجة إلا يوم". وكانت مثلا في كل شيء وتاريخا في كل شيء)