ما الموقف من شخص نقول له إن تعاطى السم يؤدى إلى الموت، فيكون رده إنه ليس متأكدا وانه يريد ان يجرب بنفسه؟! وما الموقف ممن يزين له ذلك ويوهمه انه أقوى من السم وانه يستطيع ان يتغلب عليه؟! أغلب الظن ان هذا الشخص يعانى من ميول انتحارية مرضية معروفة لدى أطباء النفس، ويقولون انه مرض يمكن علاجه، وإن كان ذلك من الصعوبة بمكان.. أما الذين يزينون له ذلك فهم بين جاهل يجهل انه يجهل وبين متآمر يعمل على التخلص ممن يدعى الاخلاص له. وعندما يضيق صدر الادارة والسلطة التنفيذية بالقضاء والقضاة الى حد تدبير المذابح، فإنهم بذلك ينتحرون سياسيا، وهذا ما انزلقت اليه السلطة التنفيذية التى يرأسها الآن وحتى إشعار آخر الأخ محمد مرسى. ان الريس مرسى يجمع الآن بين السلطة التنفيذية التى يرأسها، وبين السلطة التشريعية، وهذا يتعارض مع أبسط المبادئ الديمقراطية التى تنص على الفصل بين السلطات. وقد أوجدوا له العذر فى ذلك بسبب غياب السلطة التشريعية بعد صدور قرار المحكمة الدستورية العليا ببطلان مجلس الشعب بأغلبيته الاخوانية. ووجد صاحبنا نفسه رئيسا للحكومة بكل سلطاتها التنفيذية، ورئيسا أعلى للقوات المسلحة، ثم مشرعا مستقلا يستطيع ان يصدر فى أي وقت قرارا بقانون يمكن وضعه موضع التنفيذ بمجرد نشره بالجريدة الرسمية. وزين له أحدهم أو بعض رؤسائه الاخوان انه بهذه السلطات يستطيع اتخاذ أي إجراء بمجرد التوقيع على قرار تنفيذى أو قرار بقانون. وبعد ساعات قليلة من صدور حكم محكمة الجنايات ببراءة المتهمين فى القضية المعروفة باسم معركة الجمل استنكر كثيرون هذا الحكم وأعلنوا رفضهم له، وظن صاحبنا انه يستطيع ان يحتوى هؤلاء وان يسترجع بعض ثقة الرأي العام التى لم يعد يملك الكثير منها وذلك بإقالة النائب العام للايحاء للعامة بان النيابة العامة لم تقم بواجبها فى جمع أدلة الإدانة وتقديمها الى المحكمة وان اللوم يقع عليها وعلى صاحبها المستشار الدكتور عبد المجيد محمود النائب العام. ولأن النائب العام محصن ولا يجوز عزله بأي حال من الأحوال وفقا للقانون إلا إذا رغب في التخلي عن منصبه أو وصل إلى سن التقاعد، فهو بدون ذلك غير قابل للعزل. وقد ادعى الريس مرسى ان النائب العام قدم استقالته وانه قبلها وقرر تعيينه سفيرا لمصر لدى الفاتيكان، وظن صاحبنا ان الدكتور عبد المجيد محمود سيسعد بذلك وانه سينعم الى حين بالحياة فى ربوع ايطاليا والاستمتاع بجمال عاصمتها روما. ولم يكن ذلك يمثل إغراءً لمثل الدكتور عبد المجيد محمود الذى أعلن انه لم يتقدم باستقالة وانه باق فى موقعه بحكم القانون. واحتشد القضاة وكل رجال القانون وراء النائب العام رافضين هذا التدخل السافر فى شئون القضاء ومحاولات التأثير على رجاله، خاصة ان هذا الموقف من الريس مرسى لم يكن الأول من نوعه، لقد حاول ممارسة هذه اللعبة من قبل بإصداره قرارا جمهوريا تحدى به حكم المحكمة الدستورية العليا الذى أبطل مجلس الشعب، وهو ما وصفه أساتذة القانون الدستورى بأنه تعد سياسى على العدالة، وهو ما يتجاوز التعدى على القضاة مع التسليم بان احترام القضاء مرتبط باحترام القضاة إلا أن التعدى على المؤسسة أفدح بكثير، لأن الأشخاص زائلون أما المؤسسات فتدوم. وكان الأمر جللا لأن تحدى حكم المحكمة الدستورية العليا يأتى بعد ثورة تهدف الى تأسيس دولة القانون واحترام أحكامه. ولم يدر صاحبنا والذين معه ان ما يقدمون عليه هو أكثر خطورة من مذبحة القضاء التى كانت فى نهاية أغسطس من العام التاسع والستين من القرن الماضى، وان موقف القضاة من الدعوات السياسية المطالبة بعزل النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود لن تمر، وانما هي بمثابة سم قاتل يؤدى الى انتحار سياسى يقضى على صاحبه قضاءً مبرما. ان ما كان فى القرن الماضى جاء فى أعقاب هزيمة عسكرية وفسره البعض بانه كان حرصا من النظام على تأمين الوضع الداخلى فى ظرف صعب، وهو ما رفضناه واستنكرناه. أما تحدى القضاء الآن فإنه يأتى فى ظل ثورة شعبية قابلة للتكرار والاشتعال من جديد، وهو ما ظهرت بوادره يوم الجمعة الماضى فى ميدان التحرير وفى مسيرة المظاهرات من مسجد محمود بالقاهرة ومسجد القائد ابراهيم بالاسكندرية. ويأتى تحرك القضاة ورجال القانون وعقلاء الأمة الآن ليرسخ مفهوم عدم جواز خلط العمل القضائي بالسياسة بأي حال من الأحوال، وكذلك عدم تدخل رجال السياسة في الأعمال القضائية والأحكام. ويجمع القضاة على رفض أي تدخل ويتمسكون بالحفاظ على استقلال القضاء واحترام أحكامه. وعندما تصدر تعليقات على أحكام المحاكم من عامة الناس ممن يفتقدون الثقافة القانونية الخاصة بسيادة القانون وطرق الطعن والتقاضي، فالقضاة يتجاوزون عنها لردء أي خلاف. أما عندما تصدر من مسئولين يفترض فيهم العلم والدراية بأمور الحكم، فإنه يكون أمرا لا يجوز السكوت عنه. وقد سبق ان تجاوزنا عن محاولة ساذجة من الريس مرسى يوم حاول مجاملة أحد طرفي قضية معروضة أمام القضاء عندما أعلن رفضه قيام أستاذ بجامعة الأزهر باتهام الفنانة إلهام شاهين بتهمة خطيرة تتعلق بالعرض والشرف، وقال لمجموعة الفنانين الذين التقى بهم انه سيتصل بها معلنا تعاطفه معها ورفضه لما قيل عنها. وهذا لم نره جائزا من رئيس جمهورية لما فى ذلك من محاولة تأثير على سير الدعوى القضائية، فى حين انه مقبول من الآخرين ونحن منهم فقد استنكرنا هذا الاتهام وتعاطفنا معها ضد من تجرأ عليها بالسب والقذف والطعن فى عرضها وشرفها، ونشرنا ذلك فى أكثر من مقال، وقلنا ان ذلك لا يبرر تصريحات الريس مرسى فى هذا الشأن بعد ان قامت المجنى عليها بإبلاغ النيابة العامة ضد صاحب الاتهام، وأقامت جنحة مباشرة تطالب فيها بتطبيق نصوص القانون عليه، وقلنا ان ذلك قد يُقبل من كتاب وأصحاب رأي، دون غيرهم، خاصة من رئيس الجمهورية الذى تحسب حركاته وكلماته بحساب خاص، وهو ما لا يعيه الريس مرسى والذين معه ممن يجهلون، ويجهلون انهم يجهلون. ونحن نرى ان هذا قد يكون مقبولا منا ومن عامة الناس، ولكنه غير مقبول من رئيس الجمهورية لأن فى ذلك شكلا من أشكال الضغط على القضاة الذين سينظرون الدعوى القضائية بعد ان قرأوا وعلموا ان رئيس الجمهورية يتعاطف مع أحد الخصمين الماثلين أمام منصة القضاء، وقلنا ليته اكتفى بالاستنكار ولم يتجاوز ذلك، وليته يعى انه من غير المقبول منه ان يتحدث فى أمر منظور أمام القضاء. وتحقيقًا لسيادة القانون، وحتي يكون القانون كما أراده الثوار خادما للحرية وليس سيفا مصلتا عليها يتعين البدء فورا في إزالة كل البصمات التي شوهت الاوضاع السياسية، ليأمن جميع المواطنين علي حرياتهم وحرماتهم، فلا تسلب أو تمس إلا طبقا لأحكام القانون العام وحده، وبحكم من القضاء العام وحده، وبالإجراءات المتبعة أمامه وحدها. إن قيام سلطة قضائية حرة مستقلة ينص عليها الدستور، بما يؤكد استقلالها وبيان ضمانات أعضائها، يعد ضمانة أساسية من ضمانات شعبنا، ومن ثم دعامة أساسية من دعامات صلابة الجبهة الداخلية، وهذا هو جزء من مطالب القضاه، ونحن معهم. ومن يحاول التعدى على تلك القيم أو تجاهلها، ويصور له غروره انه قادر على تدبير مذبحة للقضاء فإنه يسارع بالانتحار بتناوله سما قاتلا لا ينجو منه. ويبدو ان محاولات الانتحار السياسى لا تزال مستمرة. ونسأل الله السلامة والعافية..