شهر رمضان في مصر له مذاقه الخاص وعادات وتقاليد تميزه مما جعل العديد من الرحالة يدونون ما يشاهدونه من احتفال باستقبال الشهر الكريم ، لدرجة أن بعض الرحالة أشاروا إلى بعض القضايا الفقهية التى تتعلق بالصوم وممارسة الحياة خلال هذا الشهر الكريم وما يصاحبها من تغيرات تطرأ على سلوك المسلم لدرجة جعلتهم يتمنون أن تسود تلك الروح الرمضانية كل أيام السنة . الرحالة الإيطالى (برنار دو بريدنباخ) رصد في كتابه المنشور عام 1409م مظاهر بهجة الناس بهذا الشهر، ووصف إنارة المساجد والدروب، وحلقات الإنشاد والذكر، ودق الدفوف حتى تعذر عليه النوم. وكان ذلك شأن الرحالة (فيلكس فابري) (1440-1502م) الذي زار مصر مرتين؛ أولاهما عام 1480م والثانية من 13 أبريل 1483م حتى 30 يناير 1484م، معرباً عن دهشته ليلة دخوله القاهرة لكثرة ما رأى في شوارعها من الأنوار والمشاعل والفوانيس مختلفة الألوان والأشكال،يحملها الكبار والصغار، وشاهد المسحراتي يجوب الشوارع ليلاً، وينادي الناس بأسمائهم. واعتقد أنه أحد رجال الدين... أما الرحالة الفرنسي «جاك دو فيلامون» الذى زار مصر في عام 1589م وفي كتابه المنشور بعنوان (رحلات السير دوفيلامون) فقد تحدث عن مواكب دراويش الصوفية وحلقات الذكر والمساجد المضاءة وزحام الأسواق ومآدب الإفطار التي يدعى إليها الأصدقاء، واصفاً المصريين بالكرم بقوله: «ولديهم عادة جميلة، إذ يجلسون على الأرض ويأكلون في فناء مكشوف أو أمام بيوتهم، ويدعون المارة إلى الطعام في صدق وحرارة». وبحسب ما ذكره المؤرخ الفرنسي الشهير (إدم فرنسوا جومار) (1777-1862م)، أحد العلماء الذين اصطحبهم نابليون معه أثناء حملته على مصر عام 1798م في كتابه (وصف مدينة القاهرة وقلعة الجبل), إذ يقول: «تحيا الأعياد الدينية في القاهرة ببذخ شديد؛ فالناس جميعاً يعلمون أن رمضان هو شهر الصوم فيمتنعون عن الطعام والشراب والتدخين، والاستمتاع بأي تسلية لنسيان ذلك الامتناع، ويحتفي المسلمون بليالى رمضان، وبينما يحضرون خلال النهار في جماعات كبيرة، وبورع شديد دروس الفقه في المساجد، تبدو في المساء الشوارع مضاءة صاخبة، وتظل الأسواق والمقاهي مفتوحة حتى أذان الفجر». وأورد الطبيب الفرنسي (أنطوان بارتيليمي كلوت) (1793- 1868م) المعروف بكلوت بك صديق محمد علي، ومؤسس أول مدرسة للطب في مصر في عهده؛ أورد انطباعاته عن شهر رمضان في كتابه (لمحة عامة عن مصر) فقال: «من مظاهر هذا الشهر صومه، فهو من الفرائض في الدين الإسلامي، وهو لا يقع في فصل معين من فصول السنة، وإنما يطوف بها جميعاً، وتتم دورته في كل ثلاث وثلاثين سنة مرة. على خلاف ما كنا نعتقد في أوروبا بأنه شهر ترفيه وملذات، فإكتشفنا إنه شهر كبح الشهوات»..ومن الأشياء التي لفتت انتباه كلوت بك امتناع بعض المصابين بالحمى عن تناول الدواء مؤثرين الموت على مخالفة واجب الصوم، وإذا تحدث عن وجبة الإفطار قال: «إن الفقراء يتناولون إفطارهم بنهم وشهية، أما الأثرياء فيكتفون بوجبة خفيفة؛ قليل من الخبز أو الحلوى أو الفاكهة إلى أن يصلوا العشاء، ثم يتناولون وجبة الإفطار الدسمة». وعن أحوال الناس يقول: «إن كثيراً منهم يتخذون طريقهم إلى المساجد لأداء صلاة التراويح، بينما يذهب بعضهم الآخر إلى المقاهي يستمعون إلى حكايات شعراء الربابة والمنشدين، وتتنوع أمسيات رمضان في شوارع القاهرة ما بين مشاهد ألعاب الحواة أو حلقات الذكر حول ضريح أحد الأولياء». وقد حدثنا أيضاً المستشرق البريطاني (إدوارد وليم لين) (1801-1876م) في كتابه (أخلاق المصريين المعاصرين وعاداتهم) الذي نشر في عام 1836م، عن ليلة رؤية رمضان عام 1835م، فيذكر: «والليلة التي يتوقع أن يبدأ صبيحتها الصيام تسمَّى ليلة الرؤية»، فيُرسَل عددٌ من الأشخاص الثقاة إلى مساحة عدة أميال في الصحراء؛ حيث يصفو الجوليروا هلال رمضان، بينما يبدأ من القلعة موكب الرؤية الذي يضم المحتسب وشيوخ التجار وأرباب الحرف والطحانين والخبازين والجزارين والزيَّاتين والفكهانيين. وتتقدَّم الموكب فرقة من الجنود، ويمضي الموكب حتى ساحة بيت القاضي، ويمكثون في انتظار من ذهبوا لرؤية الهلال، وعندما يصل نبأ ثبوت رؤية هلال رمضان يتبادل الجميع التهاني، ويسير الدراويش في مجموعات يطوفون أحياء القاهرة وهم يصيحون (يا أمة خير الأنام.. صيام.. صيام), أما إذا لم تثبت الرؤية في تلك الليلة فيكون النداء (غدًا متمّم لشهر شعبان.. فطار.. فطار). ويعد لين أبرز من تحدث عن المسحراتي وعاداته، وذكر نصوص الأغاني التي يتغنى بها والنوتة الموسيقية الخاصة بكل أغنية. كما ذكر أنه يدور في كل ليلة، ولكل منطقة مسحراتي خاص بها، يطلق المدائح لأرباب المنازل؛ ممسكًا بيده اليسرى بازًا صغيرًا وبيده اليمنى عصا أو قطعةً من الجلد يضرب بها عند كل وقفة ثلاث مرات، يرافقه صبي يحمل ناقوسين؛ موحداً الله ومصلياً على الرسول- صلى الله عليه وسلم- (اصح يا غفلان وحد الرحمن.. أسعد الله لياليك يا فلان)، داعيًا بالتقبل والحفظ لأهل الدار، ولا يذكر أسماء البنات، وإنما يقول: أسعد الله لياليك يا ست العرايس، وكان المسحراتي يلزم الصمت عندما يمر ببيت في حالة حزن لوفاة عزيز، وتحدث إدوارد لين عن العشر الأواخر من رمضان، وقال إن غالبية المؤمنين يفضِّلون قضاءها في المشهد الحسيني وجامع السيدة زينب. وبالوصول إلى الرحالة الأيرلندى (ريتشارد بيرتون) (1821-1890) الذي زار مصر عام 1853م, فيقول أن مختلف الطبقات تراعي شعائر هذا الشهر بإخلاص شديد، رغم قسوتها، فلم أجد مريضًا واحدًا اضطر ليأكل حتى لمجرد الحفاظ على حياته، مضيفاً أن الأثر الواضح لهذا الشهر على المؤمنين هو الوقار الذي يغلِف طباعهم، وعند اقتراب المغرب تبدو القاهرة وكأنها أفاقت من غشيتها، فيطلُّ الناس من النوافذ والمشربيات، فتنتظر لحظة انطلاق مدفع الإفطار من القلعة، ويجلجل صوت المؤذن جميلاً، داعيًا الناس للصلاة، ثم ينطلق المدفع الثاني من قصر العباسية (سراي عباس باشا الأول) وتعم الفرحة أرجاء القاهرة. أما ألبرت فارمان (1876 - 1969) الذي كان قنصل أمريكا العام في القاهرة بين عامي 1876-1881م فقد رصد في يومياته الحياة الاجتماعية في مصر في نهاية عصر إسماعيل وبداية عصر توفيق، وعن انطباعاته التي سجَّلها عن مظاهر الاحتفال بشهر رمضان يقول: «شهر رمضان يبدأ فيه سفر الحجَّاج»، ويذكر أن رؤية الهلال تبدأ بخروج الرجال إلى التلال العالية خلف القلعة، وفور ثبوته يعودون بالبشرى، ولا بد من إثبات ذلك كتابةً، وفور ذلك تسير المواكب الرسمية والشعبية المبتهجة في أرجاء العاصمة القاهرة، معلنةً بدء صيام رمضان. المصدر: عرفة عبده على - رمضان فى الزمن الجميل