كيف كانت مصر تستعد لاستقبال شهر رمضان أيام زمان؟ وتأتى الإجابة على لسان المؤرخ (ابن المأمون) الذى يصف لنا هذه الاستعدادات بقوله: «كانت العادة الجارية من الأيام الأفضلية فى آخر جمادى الآخرة من كل سنة أن تغلق جميع قاعات الخمارين بالقاهرة ومصر. وتختم ويحذر بيع الخمر» فرأى الوزير المأمون لما ولى الوزارة بعد الأفضل ابن أمير الجيوش أن يكون ذلك فى سائر أعمال الدولة.. فكتب أمرًا به إلى جميع ولاة الأعمال. وأن ينادى بأنه من تعرض لبيع شىء من المسكرات أو لشرائها سرًا وجهرًا.. فقد عرّض نفسه لتلفها وبرئت الذمة من هلاكها». هذا ما نقله لنا (عرفة عبده) فى كتابه القيم «رمضان فى الزمان الجميل» الذى صدر ضمن سلسلة كتاب الجمهورية والذى يعود بنا إلى عام 55 ه لنرى أول قاض خرج لنظر الهلال فى شهر رمضان.. وهو القاضى أبو عبد الرحمن عبد الله ابن لهيعة الذى ولى القضاء فى مصر وخرج لنظر الهلال وتبعه بعد ذلك القضاة لرؤيته حيث كانت تعد لهم دكة على سفح جبل المقطم عرفت ب?«دكة?القضاة» يخرجون إليها لنظر الأهلّة. فلما كان العصر الفاطمى بنى قائدهم (بدر الجمالى) مسجدًا له على سفح المقطم اتخذت مئذنته مرصدًا لرؤية هلال رمضان. «فى القرن الثالث الهجرى اهتم أحمد بن طولون بأمر العمال.. خاصة فى شهر رمضان.. فقد خرج مرة لزيارة مسجده وقت بنائه. فرأى الصناع يشتغلون إلى وقت الغروب. فقال: متى يشترى هؤلاء الضعفاء إفطارًا لعيالهم؟ اصرفوهم العصر. فأصحبت سنة من ذلك الوقت. فلما فرغ رمضان قيل له: لقد انقضى شهر رمضان. فيعودون إلى عادتهم. فقال «قد بلغنى دعاؤهم وقد بركت به. وليس هذا مما يوفر العمل. وينتقل بنا (عرفة عبده) إلى العصر الفاطمى بمصر. والذى كان يعهد فيه للقضاة بالطواف بالمساجد فى القاهرة وباقى الأقاليم لتفقد ما تم اجراؤه فيها من اصلاح وفرش وتعليق المسارج والقناديل. حتى إن الرحالة (ناصر خسرو) الذى زار مصر فى القرن الخامس الهجرى وصف (الثريا) التى أهداها الخليفة الحاكم بأمر الله إلى مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط، بأنها كانت تزن سبعة قناطير من الفضة الخالصة، وكان يوقد بها فى ليالى المواسم والأعياد أكثر من 700 قنديل، وكان يفرش بعشر طبقات من الحصير الملون بعضها فوق بعض، وما أن ينتهى شهر رمضان حتى تعاد تلك (الثريا) والقناديل والمشكاوات إلى مكان أعد لحفظها داخل المسجد، كما أن الدولة فى ذلك الوقت كانت تخصص مبلغًا من المال لشراء البخور الهندى والكافور والمسك الذى يصرف لتلك المساجد فى شهر الصوم. فى زمن الحملة الفرنسية فى مصر أشار (الجبرتى) إلى أمر (سارى عسكر الفرنسى بونابرته) بالمناداة فى أول رمضان بأن نصارى البلد يمشون على عادتهم مع المسلمين ولا يتجاهرون بالأكل والشرب فى الأسواق، ولايشربون الدخان ولاشيئًا من ذلك بمرأى منهم.. كل ذلك لاستجلاب خواطر الرعية. ومع بداية القرن العشرين فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى انتقل إثبات رؤية الهلال إلى المحكمة الشرعية بباب الخلق، وكانت مواكب الرؤية تخرج من مبنى المحافظة إلى المحكمة الشرعية، وتنتشر فرق موسيقى الجيش والبوليس فى الشوارع وتزدان القباب والمآذن.. يوم كانت المآذن تعلو البيوت.. بينما مدافع القلعة والعباسية تدوى. أمًا الرحالة الأجانب فقد رصدوا كل مظاهر التقاليد والمعتقدات الشعبية المتوارثة، ومن بينها مظاهر الاحتفال بشهر رمضان أمثال المستشرق البريطانى (إدورالين) الذى شغف حبًا بمصر، واختلط بأهلها وتأثر بهم حتى إنه شارك المسلمين صلاتهم بالمساجد وفى حلقات الذكر.. وأطلق على نفسه (منصور أفندى)، وكان يخرج مع جموع المصريين من المسلمين وهم يطوفون بأحياء القاهرة ليلة الرؤية وهم يصيحون: يا أمة خير الأنام صيام.. صيام، وإذا ثبت العكس يكون النداء: غدًا متمم لشهر شعبان فطار.. فطار. أهل القرآن ومادمنا بصدد الحديث عن رمضان من زمن فات، فلم ينس (عرفة عبده) فى مؤلفه أن يربط بين شهر الصوم.. وهو نفسه القرآن أيضًا، فكان الكلام عن حلو الكلام عن القرآن الكريم، وعمن كان يتلوه. فمصر ولادة خرج من رحمها أشهر الأصوات القرآنية التى كانت خير سفير لله، ولم ينس أندى صوتًا كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم (بلال) أول من رفع الأذان فى الإسلام.. يوم كان يقول له صلى الله عليه وسلم «أرحنا بها يا بلال».. أو أبو موسى الأشعرى الذى قال فيه عليه الصلاة والسلام: «لقد أوتيت مزماراً من مزامير داود». وفى القرن العشرين وبدخول الشيخ (أحمد ندا) إلى عالم القراءة أحدث ثورة فى دولة التلاوة، فقد ابتكر أسلوبًا جديدًا فى القراءة مع قوة وجمال الصوت الذى كان يدخل سريعًا إلى القلوب فيأسرها ويستولى على مشاعر المستمعين، وبلغت شهرته كل المديريات وأحيا ليالى رمضان فى قصور الباشاوات والأمراء ودور العمد والأعيان.. وبدأ أجره ب 5 جنيهات - وكان مبلغًا ضخمًا بمقايس ذلك الزمان - حتى وصل إلى مائة جنيه فى الليلة الواحدة، وامتلك عربة تجرها أربعة خيول وقصرًا يؤمه نجوم السياسة والأدب والصحافة. يقول عنه الشيخ عبد العزيز البشرى - أحد ظرفاء مصر - إنه كان يقرأ فلا يلتزم لونًا واحدًا، إنما يتجول بين فنون التنغيم ليلتمس أندر جمالياتها وأصعبها أداءً.. وكان عميد القراء فى عصره. وإلى جانب عميد القراء - كان هناك رواد آخرون منهم: الشيخ بدار مقرىُ السلطان العثمانى والشيخ محمود القيسونى مؤذن ومقرئ السراى، والشيخ حسين الصواف، والشيخ حنفى برعى، والشيخ محمود صبح، والشيخ يوسف المنيلاوى الذى اتجه للتلحين والغناء. وهناك نجم فن التواشيح والتلاوة المؤذن والمنشد والمطرب الشيخ على محمود مقرئ جامع الإمام الحسين الذى درس فنون الموسيقى الشرقية.. ووضع عشرات الألحان لقصائد دينية وأسلوبه الفريد مع بطانته فى السيرة النبوية والإنشاد الدنيى الذى جعل منه أسطورة لن تتكرر فى هذا الفن. وكان يصعد المنارة القديمة لمسجد الحسين ليؤذن للصلوات الخمس.. ويسبق آذان الفجر بتسابيح توقف كل السائرين حول المسجد. وكان عندما يقبل على ساحة الميدان يخلع (نعليه) تأدبًا ويسير حافيًا إجلالًا لسبط رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وخلفه فى القراءة بمسجد الحسين الشيخ محمد الصيفى أستاذ علم القراءات الذى أدخل فنونًا جديدة على قواعد التلاوة وتتلمذ على يديه الكثيرون. وهناك أيضًا الشيخ سعيد محمد نور السودانى مقرئ مسجد الخازندارة بشبرا، وكانوا يطلقون عليه الشيخ (سعيد العبد)، وكان صاحب أسلوب متفرد فى التلاوة مغلف بالشجن العميق.. قال عنه الكاتب محمود السعدنى فى أوراقه «إنه كان يتلو بأسلوب كأغانى الزنوج فى الغابات». واللافت للنظر أن سائقى ترام شارع شبرا حيث يوجد المسجد كانوا يتوقفون عند سماعهم لصوت الشيخ سعيد العبد» واستجابة للركاب أيضًا. قيثارة السماء ونأتى إلى قيثارة السماء الشيخ (محمد رفعت) الذى وصف بأن «دموع قلبه كانت تجرى فى نبرات صوته «وكان صوته رمزًا لشهر رمضان الكريم. عشق صوته كثير من غير المسلمين. حتى إن الفنان نجيب الريحانى كان يستمع إليه حتى يبكى بين الجموع التى كانت تجتمع لسماعه بمسجد الأمير مصطفى فاضل باشا بدرب الجماميز. وكان إذا أطال الشيخ فى القراءة اتصل الريحانى بالمسرح يطلب تأجيل رفع الستار حتى ينتهى الشيخ من تلاوته، كما كان مكرم باشا عبيد صديقًا له. تعلم منه تلاوة القرآن، وكان يتباهى بأنه تعلم على صوت الشيخ رفعت وكان الفنان محمد عبد الوهاب يسهر تحت قدميه ينصت فى خشوع تام إلى قيثارة السماء. وكما كان سائقوا الترام يقفون بشارع شبرا لسماع صوت الشيخ سعيد نور بمسجد الخازندارة..كان سائقوا الترام من الأقباط يقفون أيضًا أمام مسجد فاضل باشا بدرب الجماميز لسماع مرهف الحس الشيخ محمد رفعت وجاء من بعده الشيوخ أبو العنين شعيشع ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد ومحمود على البنا وكامل يوسف البهتيمى ومنصور الشامى الدمنهورى ومحمود خليل الحصرى ومحمود عبد الحكم ونصر الدين طوبار وراغب مصطفى غلوش، ومحمد محمود الطبلاوى.. وغيرهم كثير ممن تركوا بصمات واضحة جلية فى سماء التلاوة. ولاينسى الكاتب عرفه عبده وهو يتذكر الأيام الخوالى من الزمن الجميل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فإن تعبت القلوب عميت، فيعرج بنابين سطور كتابه إلى سهرات رمضان بحى الحسين والسيدة زينب التى تهفوا إليها القلوب من كل فج عميق.. يستوى فى ذلك أصحاب الأحياء الشعبية وأصحاب الأحياء الراقية، هذا فى القاهرة، وفى الإسكندرية يسيرون فى المنشية وسوق الخيط والإبراهيمية حتى أن الفنادق ذات الخمسة نجوم غارت من تلك الأماكن، فنقلت جو هذه الأماكن للفنادق. وكنا نرى فى الأماكن الشعبية سرادقات الفن الشعبى والدينى الأصل. فكان هناك سرادق الفنان «محمد الكحلاوى» ومسرح السامر أيام «زكريا الحجاوى». وقد اختفت الآن ظواهر كثيرة مثل شاعر الربابة الذى كان يحيى ليالى رمضان فى القاهرة فى المقاهى قبل بداية انتشار الراديو.. وكذلك مواكب دراويش الصوفية. التواحيش فى أواخر رمضان كان المسحراتى يتغنى وفى صوته مسحة من الحزن ب «التواحيش» لقرب فراق الشهر الكريم ووداعه فيقول: لا أوحش الله منك يا شهر الصيام لا أوحش الله منك يا شهر القيام لا أوحش الله منك يا شهر العزايم لا أوحش الله منك يا شهر الولائم وممن كانوا ينشدون هذه التسابيح أو التواحيش ( عبده الحامولى) الذى كان حريصًا على الإفطار فى حى الحسين، وعقب آذان العشاء كان يصعد إلى منارة جامع الإمام الحسين ليؤدى التسابيح.. وهناك أيضًا الشيخ «على محمود» الذى كان شغوفًا بفن الموسيقى والطرب. وكان يؤديها قبل آذان الفجر، ولكل يوم نغمة.. فيوم السبت كانت «عشاق». والأحد (حجاز)، والاثنين (سيكا)، والثلاثاء (صبا أو شورى)، والأربعاء (حركاه) والخميس (راست)، والجمعة ( بياتى). أما أشهر مسحراتى فى العصر الحديث فهو الفنان «سيد مكاوى» الذى تغنى بإبداع الفنان العبقرى «فؤاد حداد» مخترع الشخصية الفنية للمسحراتى التى صاغ ملامحها من صوت الضمير والتاريخ والمجتمع والسماء.