"تلزمنا تقاليد جديدة لكى نجعل من مجتمعنا مجتمعًا أخلاقيًا، فثمة أدواء مستوطنة تهبط بحياتنا على المستوى المنشود. أدواء تنزل أفدح الأضرار بالعدالة وإرادة العمل والكرامة. وأبدأ اليوم بالحديث عن واحد منها، وهو داء الامتيازات. لقد ألغينا الامتيازات الأجنبية عام 1937، ولكن بقيت الامتيازات «الوطنية»، امتيازات مراكز القوى بأنواعها من إدارية وطبقية ومالية وعائلية، بقيت لتفسد حياتنا وتملأ أنفس الشباب بالسخط والتمرد. ولو كانت أسلوبًا استثنائيًا من العمل يلجأ إليه في النادر من الأحوال لهان بعض الشيء ولكنها القاعدة الأساسية والفريضة التي لا تغيب. الواسطة هي المدخل لكل شيء، عند الاختيار للمراكز المرموقة، في المعاملة التي يلقاها الفرد في الوزارات والمصالح، في نيل ما هو حق، وما ليس بحق. تعمل بغير حياء مفرقة بين المواطنين، مهدرة الكفاءات والقيم، مثيرة للحزازات والفتن، مصرة على حرماننا من حياة نظيفة تقوم على العدل والفضيلة والعقل والقانون. هناك عشرة في المائة ينعمون بالأمان والجاه وحسن المعاملة ويكابد الباقون وحشية البيروقراطية ووقاحة الظلم أو -في أحسن الأحوال سوء الإهمال والتسيب، ولا علاج لهذا الداء إلا بسد الثغرات التي يتسرب منها، ولن يأتى ذلك إلا بالرقابة الساهرة على مطالب الجمهور، وما يلقى من معاملة، وإيلاء كل شكوى ما تستحقه من رعاية وعناية، واعتبار الواسطة فسادًا مما يعاقب عليه القانون، وأن تكون العقوبة رادعة لمانح الامتياز وطالبه والمستمتع به على السواء. إن كل شدة تهون في سبيل اقتلاع هذا الداء من مكانه، ولكى تنبض به الضمائر مع الزمن بلا حاجة إلى رقابة أو قانون" . هكذا كتب نجيب محفوظ في جريدة الأهرام 16 رمضان 1983 . هكذا كان يكتب مبدعنا الراحل نجيب محفوظ عن مصر في بداية حقبة الثمانينيات وبعد مرور عامين فقط من حكم حسنى مبارك، بالطبع لم يتم تخوين محفوظ أو اتهامه بأنه إخوانى أو ذو ميول إرهابية رغم مرور عامين فقط على اغتيال أنور السادات! اليوم لو تجاسر شخص ما وكتب هذا المقال الرائع للعم نجيب محفوظ لتم تخوينه وتسفيهه وتقزيم قلمه وعقله وختمه بختم الانتماء للإخوان الذين كانوا أكبر داعم لنظام السادات، وما بعده حتى نالوا جزاء سنمار ! تخيل أن بلاء مصر مكشوف ومفضوح منذ زمن بعيد، وأن دولة المصالح ومراكز القوى والتي قزمها وصف الرئيس الحالى السيد عبد الفتاح السيسي إلى شبه دولة كانت هي السائدة منذ عهد الرجل الذي ادعى أنه حاربها وقضى عليها.. مجرد كلمات يتفوه بها كل من يجلس على عرش المحروسة.. كلمات جوفاء ولكنها منمقة وبراقة عن الحرية والعدالة والمساواة ومصر التي للجميع.. ومصر العظيمة التي يجب أن تحيا !!! كيف تحيا مصر وغالبية أهلها تحت نير الظلم والفساد والتمييز والقهر ! هل مصر عبارة عن قطعة أرض وحدود جغرافية بدون مواطنين..من هي مصر التي يتحدثون عنها بينما موازنة الدولة في العام المالى المقبل تفضح وجود مصريين ! نعم مصر خاصة بالكبار الذين تحدث عنهم العم محفوظ منذ 33 عاما، والذين تزداد مخصاصاتهم وتتضاعف نحو مزيد من التدليل مقابل مصر الأغلبية الفقيرة البسيطة المفقورة التي عليها أن تسمع فتطيع، وتخدم وتجاهد وتتبرع بحلقها أو خلخالها أو حتى لقمتها لخدمة نواب الحكومة الذين زادت مخصاصتهم بمقدار 100 مليون جنيه دفعة واحدة في وطن قادر فقط على الفقراء، يقتر عليهم ويفقرهم ويرفع عليهم أسعار كل شيء!....رحم الله نجيب محفوظ ورحمنا جميعا. [email protected]