التعامل مع التاريخ كونه خطاً مستقيماً أمر لا ينبغى أن يتعامل به الساسة، فالأحداث المتلاحقة التى تكون صفحات التاريخ ما هى إلا حلقات متصلة متلاحقة، من الممكن أن تصبح مجرد صفحات فى الذاكرة السياسية للوطن، ومن الممكن أيضا - وهو الاحتمال الأقرب دائما للحدوث- أن تتكرر الظروف ،وبالتالى تتكرر القرارات والخطوات اللازمة لها.. ما سبق أمر كشفته مداخلة قام بها الكاتب الصحفى الراحل «أحمد بهاء الدين» أثناء مناقشات الدستور فى مارس 1967 .. إذا شئنا أن نصف المرحلة الراهنة «التى نضع لها الدستور، فهى مرحلة انتقال من التحول إلى الاستقرار. إن الثورة حادث نادر فذ فى حياة الشعوب، لا يحدث كل يوم، بل ولا كل قرن، وثبات الثورة النهائى هو فى تحولها من حدث ثورى له إجراءاته الاستثنائية، إلى شكل عادى، لحياة جديدة تنمو وتتطور بمحركاتها الداخلية وقوتها الذاتية دون حاجة إلى دفع الثورة الخاص.. وثورتنا التى تحول حياتنا تحولا عميقا ينقل المجتمع من العلاقات الاقطاعية التابعة للاستعمار، إلى علاقات اشتراكية فى دولة مستقلة صناعية متقدمة.. ثورة بهذا العمق والشمول، بدأت بعض ملامحها تثبت وتستقر، ومازالت بعض ملامحها آخذة فى التبلور، ولابد أن نترك لها فرصة التشكيل والنماء. لهذا لابد أن يتسم الدستور الجديد الذى نضعه بطابع هذه الظروف الأساسية، لابد أن ينجح الدستور فى تثبيت الخصائص الأساسية العميقة المستمرة للمجتمع الاشتراكى والديمقراطى الجديد، دون أن يقع فى غلطة تجميد بعض ما هو وقتى ومرحلي.. بهذا المنطق، أحب أن أسجل بعض ملاحظات حول موضوعات الباب الأول من الدستور، ومادار حولها هنا من نقاش. أولاً: إننى أعتقد أن الباب الأول يجب أن تسبقه مقدمة موجزة تحمل المبادئ والقيم الأساسية التى يتكون من خيوطها نسيج مجتمعنا الجديد، ولا يعترض على ذلك بأن الميثاق حوى هذه المبادئ والقيم الأساسية، فهذه القيم مبادئ جديدة فى حياتنا، وتحتاج إلى تثبيت وإعلان وتأكيد. ووضعها فى المقدمة ليس فضولا على الدستور، لأن المبادئ الدستورية التالية لهذه المقدمة، سوف تكون مستلهمة منها مؤدية إلى تحقيقها. ثانياً: إننى أختلف مع الزملاء الذين طالبوا بتحديد تعريف العامل والفلاح فى الدستور الجديد. فهذا وقوع فى غلطة عدم التفرقة بين الثابت والمتغير، كما أشرت فى أول هذا الحديث. إننا جميعا كما اتضح من الآراء التى أبديت هنا، نتفق على ضرورة تغيير التعريف الذى أقره مؤتمر القوى الشعبية. وكوننا نشعر بحاجتنا إلى هذا التغيير بعد أقل من خمس سنوات من وضع التعريف، دليل على عنصر التغيير فى هذا المجال.. إن الهدف الأساسى الثابت فى هذا المجال، هو تذويب الفوارق بين الطبقات، وتمكين قوى الشعب العاملة من التقدم نحو المزيد من المشاركة فى السلطة.. وبعد هذا يمكن تعريف العامل والفلاح، وكذلك تعريف الرأسمالية الوطنية، وتعريف ماهو الاستغلال بوجه عام، تعريفات مرحلية تتدرج معها كلما تقدمت ونضجت تجربتنا فى التطبيق الاشتراكي، لذلك فليس من المنطق أن ينص على هذا التعريف فى صلب دستور نريده أن يكون دائما: أى نريده أن يغطى مرحلة تاريخية طويلة نسبيا. إن هذا التعريف المتطور للعامل والفلاح والرأسمالية الوطنية، وتعريف الاستغلال وعدم الاستغلال، يجب أن يترك للاتحاد الاشتراكى بمؤتمراته القومية، بوصفه السلطة السياسية العليا التى ترسم وتحدد المراحل التى يجب أن نقطعها فى رحلة تذويب الفوارق بين الطبقات، على ضوء عشرات من الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتجارب الواقعية. إنها تعريفات لا تنصب على أشياء جامدة بل تنصب على علاقات وقوى اجتماعية متغيرة متطورة. وعلى العكس من ذلك تماما، أرى ألا يتكرر فى الدستور الدائم، ما نراه فى الدستور المؤقت، من إشارة سريعة إلى الاتحاد الاشتراكي، اشارة استخدمت كلمات عامة فى وصفها للاتحاد الاشتراكى بأنه «السلطة الممثلة للشعب، والدافعة لامكانيات الثورة، والحارسة على القيم الديمقراطية السليمة». هنا نحن لسنا بصدد قوى اجتماعية متغيرة، ونريد أن نجعل باب التغيير أمامها مفتوحا.. ولكننا بصدد بناء جديد، عمل تنظيمى جديد يدخل كجزء لا يتجزأ من مؤسسات الدولة شعبية ورسمية، تشريعية وتنفيذية وقضائية. إن كل مواد الدستور التى تحدد فى النهاية الشكل السياسي، ونظام الحكم فى البلاد، لا يمكن أن تكون مفهومة لو حذفنا من بينها الدور الذى يمارسه الاتحاد الاشتراكي. إن الاتحاد الاشتراكى تجربة جديدة، وهى لذلك فى أمس الحاجة إلى التوضيح والتحديد. إنه ليس عدة أحزاب، وهو أيضا ليس حزباً واحداً، لأن الحزب الواحد يقوم على الاختيار والدائرة المغلقة، فى حين أنه يقوم على أساس حق كل مواطن فى الانضمام إليه، ولجان قاعدية تنتخب من الأغلبية الساحقة للمواطنين. إننا نقول إن الاتحاد الاشتراكى هو السلطة العليا الممثلة لارادة الشعب، وعنها تتبع سائر السلطات. فكيف ينص الدستور على هذه السلطة العليا وعلاقتها بسائر السلطات وطرق ممارستها لهذه السلطة العليا؟ قانون الاتحاد الاشتراكى لا يغنى عن النصوص الدستورية. قانون الاتحاد الاشتراكى قد يغنى فى رسم شكل الحياة الداخلية للاتحاد الاشتراكي، لجانه ومستوياته وطرق انتخابه.. إلى آخره.. ولكنها علاقة الاتحاد الاشتراكى بسائر السلطات والاجهزة، هذا من صلب الدستور. وقد يرد على ذلك بأن الاتحاد الاشتراكى هو السلطة العليا، فليس من حق لجنة الدستور أو البرلمان أن يضع له مشروعا بسلطته واختصاصاته. ولكن هذا قول ينطبق على كل نصوص الدستور لا على هذا الجزء فحسب، والوضع الصحيح لهذه المسألة، أن مشروع الدستور كله يجب أن يقر ولو فى مؤتمر استثنائى للاتحاد الاشتراكي، قبل استفتاء الشعب عليه، أو أن يعتبر الاتحاد الاشتراكى الاستفتاء الشعبى رجوعا إلى مصدر السلطة النهائى وهو الشعب. لهذا فإننى أؤيد ما ذهب إليه بعض من سبقنى إلى هذا المنبر، من ضرورة إفراد باب خاص عن الاتحاد الاشتراكي، قبل الفصول التى تتحدث عن السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، يناقش فيه وضع الاتحاد الاشتراكى وسلطاته وطريقته فى ممارستها مناقشة دقيقة، أعرف أنها ستكون صعبة مرهقة، ولكن تلك فيما أعتقد من أكبر مهمات لجنة وضع هذا الدستور.. ولا أتحدث هنا تفصيلا عن الاتحاد الاشتراكي، تاركا هذا لساعة افتتاح اللجنة التحضيرية بقبول هذا الاقتراح وإفراد باب خاص له، أو فى حالة عدم اقتناعها لوقت مناقشة الباب الرابع.. تأتى بعد ذلك نقطتان، طلب كثير من المتكلمين ادخالهما، اضافة أو تعديلا، على الباب الأول. النقطة الأولي: هى أن يضاف إلى ما ذكره الدستور المؤقت من أن الشعب المصرى جزء من الأمة العربية، فقرة تسجل أن مصر جزء من الوطن الأفريقي. نفس الشيء ينطبق على ما اقترحه بعض الاخوة من الاشارة إلى سياسة عدم الانحياز فى نصوص الدستور. النقطة الثانية: تتعلق بعدم الانحياز.. إن عدم الانحياز لا يكون إلا بين قطبين، وقد عرف واستقر فى الذهن العام أن الحياد كان معناه عدم الانحياز إلى المعسكر الشيوعى فى الشرق، أو إلى المعسكر الرأسمالى فى الغرب وهذا أيضا وضع يتغير بسرعة ويتغير نتيجة نجاح سياسة عدم الانحياز وثبوت صدق نظرتها من أننا مقبلون فى العلاقات الدولية على مرحلة من التعدد لا من التوحد، مرحلة من المساواة بين الدول الصغيرة للدول الكبيرة مهما كان نظامها. معسكر الشرق الآن يتشقق ومعسكر الغرب يتشقق. وخريطة الكتل السياسية فى السنوات العشر المقبلة سوف تتغير تغييرا هائلا، قد تصبح هناك كتلة أوروبية مختلفة عن كتلة أمريكية.. وقد تصبح هناك كتلة آسيوية أفريقية لها مصالح تختلف عن كتلة أوروبية أمريكية.. وقد.. وقد.. الأسلم اذن أن يشار فى المقدمة المقترحة للدستور إلى الجانب الجوهرى الايجابى الأصلى من الحياد وعدم الانحياز، وهو الاستقلال الوطني، وحق كل دولة فى اختيار نظامها الاجتماعي، وعدم الدخول فى أحلاف تسيطر عليها الدول الكبرى أيا كانت.