(الرحلة الأولى) (بيت يشبه حالي في العدم).. مدى مفتوح بالنسيان.. وأفكار وأشجار وهواء وحنين إلى بعيد غامض.. أبوابٌ مغلقة.. فما الأبواب إلا حيلة للاطمئنان.. وقلبٌ يركض وليلٌ يردد لم يبق سواك أنت وزوالك.. كتبي وأفكاري مبعثرة تذكرني بمن أهدته لي.. فكل منا الآن صار على حدة.. فلا حرب تُشن على موتي.. هنا لا أقوي ولا أقدر على عطر يبوح بالفؤاد.. فماذا بعد حين تمطر عليّ فيه السماء أحجار الحنين.. وسط ذكريات أمس جريح... كان العدم مطوقًا بنقيضه.. في بيت يشبه حالي في العدم.. وبيدي زجاجة الكونياك التقينا أنا وأنا.. وأنا وزينب في متحف الذاكرة.. وكنا حاملين كل أنين.. وعبثًا أخبئ جرحي المفتوح.. فماذا بعد العودة إلى هذا الأنين المتبادل والحنين الفردوسي.. سوى أن أقف أنشد على ارتفاع اللاشيء وأغني.. أنشد لا أنتظر أحدًا ولا أنتظر هتاف العائدين.. فقط أنشد لأحفظ عطرها.. وأسحب نفسي من جسد لا أراه.. أنشد لأرصد ما تبقى من فتات الغيب لي.. ففي البيت أنا دونها لا حزينًا ولا سعيدًا.. فحتى الأماكن قد تمضي قُدمًا إذا صار لها ربَة متوجة.. يا زينب.. يا شمسًا تطرز سحابي الصفراء.. يا وجع البحث عن فرح سابق.. يا من يخجل أمامك الذهب المنافق في صلابته.. أحببتك يا نهر الكرم لا لأنكِ زينب فقط.. بل لأنكِ كنت لي المقعد الخشبي في حياة المسافر.. وفي حبك تأتي كل العواطف الخبيئة ويأتي كل ما هو غائب.. كنتِ أنتِ العنكبوت على غار حراء.. ويد يسوع في الشفاء مني.. وكن أنت من ألقتني في اليَم..لأصير أنا عاشق الذات وكليم الله.. فإن كان غيابي إليك شجر.. فهذا غيابك كله دخان يطل منكِ عليّ.. فأنا الآن لم أعد أجد من يهز سريري في الليل.. فقد هدأت كل قوافلي ورحلت.. بعد أن اخترت الفراغ ونمت.. زينب.. زينب هي العنوان الثابت في دوائر الرحيل.. وإن بحثت في ملابسي عن دوائر الشك.. وهي الوحيد والأوحد التي تعرف كيف تنفتح السماء.. زينب هي بصمة وطن على جسد.. وهي بقايا الكف في جسد القتيل.. هي رسالة من بلد لم ولن أحبه وأنا فيه.. وزينب هي أمي.. وهي أوطاني.. وزينب هي... أنا.. ولكن زينب لم تأتِ.. وأتجاهل الغياب وأتجاهل.. فقد رحم الله امرءًا تغافل لأجل بقاء الود والذات.. (الرحلة الثانية) (رحلتي في شهور العتق).. صديقتان وأسطورتان وتوأمان نحن على سطوح الليل.. واحدة تغازل وأخرى تقاتل.. كيمامتين تحلقان على سقف بيت مهجور.. وكان حاضرنا يسامرنا وماضينا يسلينا.. ونسير لمدن الخيال معًا إذا احتجنا للعب البريء مع المصائر.. كانت السماء كريمة معنا وليالي القدر لنا.. فقد كان يركض تحت أقدامنا وخلفنا كل شيء.. فكل شيء بيننا كان مختلفًا ومؤتلفًا.. وكم كنا حمقى.. كم كنا حمقى حين صدقنا أن أسماءنا لنا.. وأن جناح النسر سيرفعنا إلى أعلى.. وأننا ملائكة آمنا بقدر الخلود.. كنا طيبين يا زينب وقلنا البلاد بلادنا وقلب الخريطة لنا.. كنا حالمين ولم نكن نعرف أن لنا ماضيًا يسرق الغد ويرِقص الحاضر.. فمن بلاد الشام ومقاطعات الفرنجة لبلاد الأمن والأمان كان القطار كالأفعى الوديعة.. وكان كل سفير من الألم في كل أرض يخفي غناءنا المبحوح عن نهر الحنين.. وكأن الترحال كان تدريب لنا على صداقة الذئااب.. وكأن الرحيل مثل وشم ذاب في جسدنا النحيل.. فحتى الذكري قد مرضت معنا.. كبرنا يا زينب والطريق إلى السماء بعيدة.. فقد مر القطار ولم نكن يقظين.. وعلى محطات العمر نسقط ونهوي.. ولا دور لنا في المزاح مع الوقت.. وإنه الزمن يا زينب.. الزمن هو اليم.. وأنا المُلقى فيه وحدي.. إنه الزمن يغير الملامح والعادات.. ونحن الغرباء والأشلاء.. والطيبون بالفطرة صدقنا الآلهة ولم يكن لدينا وقت للكراهية.. فنحن فقط في انتظار القطار والوداع دائمًا.. نغلق الأبواب ونتحايل على الخوف.. ونقف وراءها كالثملى متجاهلين رصاصات القدر.. ومتجاهلين كل الخيانات الساذجة من حولنا.. رحلت عنك من أرض لأرض.. فلم يكن هناك مفر من الرحيل عن وطن يحمل في طياته ذكرى خيانة مؤلمة... ذكرى تجبر على الانحناء.. وإنها سُنة الرحيل والألم.. وإنها الأحلام يا زينب.. وقد شاخت وتمددت في خريطة تجاعيد أجسادنا.. إنها الأحلام التي يجب أن ندللها أكثر حتى تكبر ونقدمها قربانًا للزمن.. ودعتك وودعت معك كل العادات كوداع المراهق لحبيبته المحتملة... ولا لقاء يتكرر بين محبين طالما قرروا الوداع دومًا.. فكثيرًا لا تكفي كلمة الموت لتفسر كيف نموت.. (الرحلة الأخيرة) (أنا المارد من زجاج).. واليوم ذكرى غفلتي نصف المنسية.. اليوم ذكرى انتقامي من الغياب.. وليس لي من شخص فقدته.. أو تمثال كسرته.. فقد قتلت قلبي بعد أن أخفيت دومًا الحنين إلى سواي.. وفعلت كما فعل الضباب بإخوتي وشويت قلبي.. فهناك العديد من الطرق ليموت من تحب.. فأنا لم أعد أرَ سواي بعد أن تجلت روحي على السياج البعيد.. فأنا أحب ذاتي كل يوم أكثر مما كنت أعرف.. أحببتها إلى حد العتمة.. وصرت أنا الحر من لعنة الجذور.. وما أكثر أسراري الكامنة وراء بابي.. اليوم يتوقف الزمن حدادًا على وحدتي.. فلم أكن أعلم يومًا أنني قد وصلت إلى تلك اللحظة التي يتوقف من بعدها الزمن.. ولم يعد لدي إلا أن أصلي بآياتي الحزينة كل ليل.. وأن أقرأ بداخلي ترانيم الخوف وتراتيل الحفظ من الوحدة.. وابتهالاتي من أن يصيبني الجنون.. أنا كليم الله الملقى في اليم.. تشقني كل ليل عصا الخوف السحري.. وليس لي إلا ابتسامة كلبي في الليل التي لا يراها سواي.. وأنا الكاتب الباحث في كتابة سيرته الذاتية عن الموت.. يا أمي.. أزمتي في الحياة أني اخترت الحياة وإن ضل ساعي السماء رسائله.. وسأظل أنا وسأظل أحذر لدغة الأمل الجريح.. فأنا لم أعرف يومًا السند السمح كيف يكون.. فلم يعد لي وطن إلا أنا.. وأنا.. أنا المتمرد الرافض وغنائي عبادة.. أنا الحامد والشاكي.. وأنا من أحب الجميع لأنه غريب.. أنا الراجح والمؤكد والواثق والعالم.. وأنا المتيم والمتمم ولم أعد أرى سواي وكانت تلك المأساة لو تعلمي.. وأنا من لم يؤرقني خدش في المساء.. ولا أبحث عن أغنية تلائم الذكرى بعد أن ألقيتني في أليم وحدي.. فقد حُرِم عليّ زيارة قلبي كمن مسه الحرام.. وأنا الكهل في العدم.. وحتى في العدم أنا الوحيد.. وأنا العدم.. أنا المعصوم من ممارسات العاديين.. أهلكت تحت قدمي قلبي والذكرى واليابس المنسي وكسرت الزمان.. وقلبي الهش تلميذ الفراشة ووريث الصبار في الوقوف.. أنا المارد من زجاج.. لا يقوى على احتمال حتى الهواء ولو عظموه.. وأنا من رفض أن يحيى في وطن بحجم القبر.. ربحت الخروج من ظلمة الليل وملل النهار.. ولكن بعد أن صرت زجاجًا.. أنا المارد من زجاج.. ذائق الموت..