«هل تسمعيىن أشواقي عندما أكون صامتًا؟ إن الصمت يا سيدتي هو أقوي أسلحتي.. هل شعرت بروعة الأشياء التي أقولها عندما لا أقول شيئًا؟» التوقيع: نزار قباني الكلام رائع، ولكن في بعض الأحيان يكون الأروع منه هو الصمت! من دون شك الكلام ترجمة لما يدور بالعقول، وقالوا في المثل: «وزعوا الأرزاق ماحدش عجبه رزقه، ولكن لما وزعوا العقول كل واحد عجبه عقله»! طبعًا شيء رائع أن الإنسان يُثمن نفسه، ويعتبر نفسه أفضل من كل الناس! ولكن، ما المقياس على صحة العقول وما تحتويه من أفكار ومعلومات وثقافات؟ المجنون شايف نفسه أعقل خلق الله! الجاهل شايف إن ماحدش يفهم أفضل منه! اللي حفظ له آيتين في أي كتاب ديني اعتبر نفسه ديَّان لخلق الله ومن المدافعين عن الله! الآن 99% من الناس يتكلمون، ويرفعون حناجرهم عالية، سواء عن علم أو دون علم، ولكن فقط لتمجيد «الأنا» بداخلهم! الغالبية العُظمى من الناس في عصرنا هذا يريدون أن يتكلموا هم فقط، وأن يصمت الآخرون! نعم، لكي يحترم الإنسان ذاته وإمكاناته الفكرية، يجب أن يصمت أمام الغوغاء واللاعقلانية والأفكار الموتورة والعقول المريضة، وإلا سوف يبذل طاقته الفكرية وامكاناته الجسدية فيما لا طائل من ورائها. نعم عزيزي، لأنك إذا جادلت الأحمق صرت جاهلًا وأحمق منه. الشخص الذي يمتلك مواهب فكرية أو أدبية أو علمية أو فنية، في الغالب يعرف قدر الآخرين، كما يعرف قدر نفسه، إنه على استعداد لقرع الحُجة بالحُجة، ومُناقشة ودحض الفكر بالفكر. ولكن في هذه الأيام، الدُنيا هاصت، كثر الكلام، "اتحنجل" ضعاف النفوس لكسب صيت على جثث الأبرياء، نصبوا الشباك، صوبوا السهام، اصطادوا نفوسًا بريئة، تراشقت الاتهامات، ماتت الضمائر وحلت جحافل الشر، فوضعوا القوانين الظالمة، وأصدروا أحكامًا صادمة في غيبة من العدالة، ووقفت الأجهزة العليا وقفة صمت رهيبة! كُمِّمْت الأفواه، كُبلت الأيادي، سُجنت العقول وراء القضبان، أُرسلت رسائل مُشفرة للذين خارج القضبان، فهل يكون هذا هو صراع الصمت؟ قال نزار قباني: «في بلاد يُغتال فيها المُفكرون ويُكفر الكاتب وتُحرق الكتب.. في مجتمعات ترفض الآخر وتفرض الصمت على الأفواه والحجر على الأفكار وتُكفر أي سؤال.. كان لابد أن أستأذنكم أن تسمحوا لي.. فهل تسمحون لي؟». نعم، إنه صمت رهيب للأجهزة العليا بالدولة.. صمت بالإجبار للعقول في غياهب السجون.. ولكن هل هذا نذير بالصمت لمن هم خارج السجون؟ إنه صراع الصمت، بين النضال الفكري والسلام الأمني، ولكن الساكت عن الحق شيطان أخرس! إذا لم تناضل من أجل حقك الفكري الآن، قد تدور عليك الرحى، وتضيع أنت وفكرك أيضًا في ظُلمات صمت السجون. ولكن على الرغم من ذلك هناك بارقة أمل، كما يقولها «لوروابراونلو»: «هناك لحظات يكون الصمت فيها أعلى صوتًا من الكلام». كثيرًا ما يحاول الإنسان أن يُفاضل بين الكلام والصمت، ولكن تصعُب المُفاضلة على مستوى الحدث، فما يصلح معه الكلام قد لا يجدي معه الصمت والعكس صحيح. وعلى ذلك قالوا في المثل: «إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب».
أي لا تنطق بالكلام إلا إذا كان كلامك أفضل من الصمت، وأن تلجأ للصمت عندما يكون من تُكلمه أقل من مستوى الكلام. من المُلاحظ أن معظم الحُكماء والعُظماء والقديسين قد فضلوا الصمت واضعين أمامهم مقولة الحكيم: «كثرة الكلام لا تخلو من معصية». ويحضرني هُنا ما قاله القديس أرسانيوس مُعلم أولاد الملوك، بعبارته المشهورة: «كثيرًا ما تكلمت فندمت، وأما عن سكوتي فما ندمت قط». عزيزي القارئ، أروع ما في الصمت أنه لغة العظماء، لا تقلق إذا كانت الظروف قد أجبرتك على الصمت، فقد يكون سلاح الصمت أقوى من سلاح الكلمة. عزيزي، ثِقْ أنهُ حينما تتكلم فأنت كتاب مفتوح لكل عابر سبيل يقرأ، ولكن حينما تصمُت فأنت لُغز يحاولون فك أسراره!