قبل سنوات.. كانت بحيرة المنزلة واحدة من أكبر البحيرات المصرية إنتاجا للأسماك بجميع أنواعها.. على ضفافها عاش آلاف الصيادين فى سعة من الرزق ورغد فى العيش.. وفجأة تبدلت الأحوال وتغيرت الأوضاع، وأصبحت البحيرة العامرة مأوى للبلطجية والعصابات المنظمة، فنشروا فيها الفزع والرعب وقتلوا عشرات الصيادين وسرقوا معداتهم، ومنعوا الباقين من الصيد والسعى وراء الرزق.. وبعد ثورة 52يناير قصدها الهاربون من السجون وأقاموا فيها أوكاراً للبلطجة والإجرام.. ومع تكرار الجرائم وعجز أجهزة الشرطة عن التصدى لتلك العصابات.. قررت أنا محقق «ڤيتو» القيام برحلة إلى البحيرة ورصد مناطق نفوذ البلطجية ومآسى الصيادين والجرائم التى وقعت فيها. قتل واختطاف.. ومخدرات وسلاح بدأت رحلتى بلقاء عدد من الصيادين وسألتهم عن الجرائم التى ترتكب داخل البحيرة.. بانفعال شديد أجاب زكريا السعدنى: «الجرائم لا تحصى ولا تعد، وكل يوم تقريبا يسقط أحد الصيادين قتيلا على أيدى عصابات تهريب المخدرات والسلاح.. وكانت آخر هذه الجرائم مقتل زميلنا محمد جمال سلامة أثناء سعيه وراء الرزق.. والواقعة بدأت عندما خرجنا فجرا بثلاثة مراكب لمزاولة عملنا المعتاد فى الصيد بمنطقة بحر «المخنق»، وفوجئنا بمجموعة من البلطجية المسلحين يهجمون علينا مستخدمين قارباً ذا موتور قوى وأطلقوا النار علينا، وبسرعة شديدة اصطدموا بمركب زميلنا القتيل فشقوه إلى نصفين ولقى الصياد مصرعه فى الحال.. لم يكتف البلطجية بذلك بل واصلوا هجومهم علينا وحطموا مركبا آخر وأصابوا من فيه ومن بينهم زميلنا السيد الشوا الذى فقد النطق من هول الصدمة.. قفزنا فى المياه وهربنا من رصاصات العصابة بينما استولى أفرادها على المركب السليم». التقط شقيق محمد السعدنى طرف الحديث قائلا: « هذ ه لم تكن حادثة القتل الوحيدة التى تقع داخل بحيرة المنزلة، فقد سبقتها جرائم عديدة أغربها مقتل زميلنا عوض بريا.. يوم الحادث كان يزاول عمله كالمعتاد ونزل الى المياه لنصب شباك الصيد.. شاهده بعض أفراد العصابات وتراهنوا فيما بينهم على قتله أثناء غطسه فى المياه، على أن يحصل من يصيبه برصاصة فى الرأس على علبة حلوى.. وظلوا يصوبون نحوه وكأنه هدف للصيد والنيشان إلى ان نجح أحدهم فى قتله وراح يحتفل مع زملائه بعلبة الحلوى وتركوا لأسرة القتيل حزنا لن ينتهى.. وفى جريمة أخرى قطع البلطجية لسان محمد جمال المصرى قبل أن يشنقوه، لأن قاربه تسبب فى قطع حبل للعصابات ربطته لتحديد مناطق النفوذ فى البحيرة.. وأيضا قتلوا الصياد محمد أحمد كملو هو ووالده أثناء صيدهما فى منطقة «التمساحة»، وأصابوا زميلنا ابراهيم الفقى برصاصة فى العين.. وبلغ جبروت هؤلاء البلطجية ذروته عندما نجحت عصابة «الدكش» فى قتل ضابط شرطة من قوة مباحث بورسعيد أثناء حملة على البحيرة». لا تقتصر الجرائم فى بحيرة المنزلة على القتل فقط.. فقد أصبحت مسرحا مثاليا لجرائم الاختطاف وتجارة المخدرات والسلاح بسبب طبيعتها الجغرافية وصعوبة ملاحقة المجرمين فيها.. هكذا قال احد الصيادين موضحا: «من بين تلك الجرائم اختطاف رجل الأعمال المسيحى جرجس جورج من مركز المطرية واحتجازه فى حجرة صغيرة وسط البوص عدة أيام إلى أن تم إطلاق سراحه مقابل فدية كبيرة، ومن قبلها حادث اختطاف شقيق لاعب الأهلى محمد شوقى واحتجازه فى البحيرة لنحو اسبوع كامل.. وأضاف: «تجارة المخدرات والسلاح منتشرة بشكل كبير فى طول البحيرة وعرضها، وتباع جميع انواع الأسلحة بداية من الطبنجات المصنعة محليا وحتى مدافع ال «الآر بى جى» فى النهار دون خوف من الشرطة أو غيرها، كذلك يتم تهريبها إلى باقى محافظات الوجه البحرى بسهولة كبيرة، ونفس الشئ بالنسبة للمخدرات من بانجو وحشيش وهيروين وبرشام وغيرها.. كل ذلك والشرطة عاجزة عن التصدى لعصابات البحيرة». الآثار فى قبضة البلطجية قطع حديثه وأشار الى جزيرة أخرى قائلا: « هذه المنطقة تسمى «تل تانيس» وهى مليئة بالآثار القديمة، ورغم ذلك لا يجرؤ أى شخص على الاقتراب منها، فالبلطجية يحرسونها ليل نهار، وفيها أقاموا منازلهم ونصبوا فوقها مدافع الجرانوف والاسلحة الآلية تحسبا لأى هجوم عليهم أو اقتراب الصيادين من مناطق نفوذهم.. وفى بعض الأحيان يهاجمون الصيادين ويستولون على محركات قواربهم واحياناً قتلهم، وبعض سكان المنطقة أقام أحواض خاصة داخل البحيرة يمنع أى شخص من دخولها أو الصيد فيها ومن يفعل يكون الموت مصيره».. أثناء حديث الصياد.. شاهدت مبانى فخمة تشبه القرية الكبيرة أو المدينة تظهر من خلف غابات البوص.. سألته عنها فقال: « هذه مناطق حدثت فيها تعديات أيضا ومع الوقت أصبحت مدنا كاملة فيها مدارس ومساجد وأراض زراعية وغيرها من المرافق الأساسية، وإن كانت لا تخلو هى الأخرى من عصابات السلاح والمخدرات والخطف والبلطجة، ومن هذه المناطق « الجحر، وبحر البقر، وبحر الملح». مدارس الإجرام في «تل ابن سلام» بعد أن استمعت الى كل هذه التفاصيل المرعبة، طلبت من مرافقى من الصيادين اصطحابى فى رحلة داخل مناطق نفوذ العصابات بالبحيرة.. رفضوا بشدة لما فى هذه الرحلة من مخاطر ولكن أمام إصرارى وافقوا بشرط أن تكون الجولة قصيرة.. انطلقنا بمركب صيد نحو منطقة تسمى «تل ابن سلام» وعندما اقتربنا منها اكتشفت انها منطقة شبه ريفية فيها منازل وأبقار وأراض زراعية.. قال لى مرافقى: «هذه المنطقة مثال حى على التعديات على بحيرة المنزلة، فقد ردمها أصحاب النفوذ والبلطجية وبنوا فوقها منازلهم وفيها يتجمع العشرات من الخارجين على القانون وحرفة البعض الاساسية فى هذه المنطقة هى الاتجار فى المخدرات والسلاح.. وتعايش الأهالى مع هؤلاء البلطجية وشاركوهم تجارتهم غير المشروعة».. أدار مركبه وانتقل بنا إلى مكان آخر وفى الطريق إستكمل حديثه: «معظم العصابات موجودة فى مناطق» العجايبة، ومعابد، والحمرا، وقعر البحر، والمحاجر، والخنكة».. أما أخطرها على الإطلاق فهى عصابة الدكش التى تتخذ من منطقة « الجرابعة» مقرا لها وهى العصابة التى قتلت ضابط شرطة من قبل.. هذه العصابات تكونت بعد ثورة 52 يناير، لأن معظم المساجين الهاربين جاءوا للاختباء هنا، ومع الوقت عادوا لأنشطتهم الإجرامية مثل تجارة المخدرات والسلاح والقتل والاختطاف، وأنشأوا ما يشبه المدارس لتعليم أصول البلطجة والإجرام، وأقاموا مصانع للأسلحة والذخائر بجميع أنواعها فى منازلهم ويهربونها الى معظم المحافظات عن طريق البحر المتوسط». في قلب الخطر طلب منى مرافقى أن استعد لأخطر جزء فى رحلتنا موضحا: « نحن الآن فى طريقنا لمنطقة «العجايبة» وهى معقل أخطر العصابات وأكثرها دموية».. مع اقترابنا من المنطقة سمعنا صوت طلقات الرصاص يتردد بكثافة شديدة.. سألت الصياد عما يحدث فقال: « العجايبة مليئة بالبلطجية والهاربين من السجون وتجار المخدرات والسلاح، وقد ارتكبوا العديد من جرائم القتل بحق الصيادين لذلك هم يخشون من الهجوم عليهم والانتقام منهم، فنظموا دوريات حراسة خاصة بهم تطلق النار باستمرار لإرهاب أى شخص يقترب من المنطقة، وهؤلاء لديهم تعليمات صارمة بقتل اى شخص يقترب مهما كان».. مع ازدياد كثافة إطلاق الرصاص، أدار مرافقى مركبه وهو يقول:«غير مسموح لنا بالاقتراب اكثر من ذلك، والآن سنتجه الى أكثر المناطق أمنا فى بحيرة المنزلة وهى منطقة «الجميل».. ما ان وصلنا إليها حتى لاحظت أنها منطقة هادئة لا تحيطها أى جزر أو تلال.. سألت الصياد: «ما اهمية هذه المنطقة لعصابات بحيرة المنزلة؟».. أجاب: «هى المعبر الوحيد الذى يقومون من خلاله بتهريب الأسلحة والمخدرات إلى البحر المتوسط ومنه الى باقى المدن والمحافظات، وبسبب طبيعتها لم تتمكن الأجهزة الأمنية من إحكام السيطرة عليها». الشرطة مرفوعة «دائما» من الخدمة بعد انتهاء جولتى فى البحيرة، جلست استمع لمشاكل الصيادين ومطالبهم.. بصوت حزين تحدث إبراهيم ابو شامة: « قديما كنا نطالب بحماية البحيرة من التعديات وعمليات الردم، أما الآن فنطلب تطهيرها من البلطجية والعصابات.. كل يوم يموت أحدنا غدرا ويُسرق مركبه، ولا يجرؤ احد على التصدى لهؤلاء البلطجية المسلحين والمدربين على جميع انواع الجرائم ونحن بسطاء نسعى على الرزق ولا قبل لنا بهم.. وذات مرة اعترضوا احد الصيادين وسخروا منه قائلين « رجليك عجبانا» واطلقوا النار على قدميه وتركوه ينزف حتى الموت وسرقوا قاربه وانطلقوا به وهم يهللون ويطلقون الرصاص فرحا بجريمتهم». وتحدث صياد آخر يدعى السعيد إبراهيم عن مأساته الشخصية قائلا: «أنا صياد بسيط.. خرجت ذات يوم بمركبى سعيا وراء الرزق، وفوجئت بعصابة تعترض طريقى وتهددنى بالأسلحة النارية، وقبل ان انطق ضربونى على رأسى وألقونى فى الماء ثم سرقوا المركب.. انقذنى زملائى وذهبت إلى مركز الشرطة لتحرير محضر وهناك أخبرنى الضباط بأنهم لن يستطيعوا فعل أى شىء، لأن معظم هذه العصابات تعمل بعلم بعض القيادات الأمنية، فضلا عن انهم يمتلكون اسلحة متطورة تفوق أسلحة الشرطة نفسها، وهم يمتلكون كاميرات مراقبة ترصد كل من يقترب منهم عن بعد وبالتالى يهربون قبل وصول القوات!!» أما الغريب طه فتحدث عن نقطة اخرى موضحا: « الصياد فى بحيرة المنزلة فريسة للجميع.. البلطجية والعصابات الذين يقتلونه ويسرقون أدوات الصيد منه.. وأجهزة الامن التى ترفض التعاون معه أو مساعدته فى الحصول على حقه.. وشرطة المسطحات المائية التى تمنع الصيد فى المناطق الآمنة بحجة انها محميات طبيعية ومن يدخل فيها يتم القبض عليه وإدخاله للسجن فى حين يفعل البلطجية ما يحلو لهم دون حسيب او رقيب وكأن الشرطة لا تراهم أو انها خارج نطاق الخدمة باستمرار».