في زماننا صار الدين كلأ مباحا، يطأه بقدمه كل عابث يسعى إلى الشهرة، مريدا بذلك أن يصبح حديث وسائل الإعلام، حتى لو شكك في ثوابت الإسلام، وأنكر معلوما من الدين بالضرورة. ومنذ أيام خرج علينا المفكر الكبير الدكتور يوسف زيدان، مشككا في معجزة الإسراء والمعراج، زاعما أن مكان وجود المسجد الأقصى ليس في فلسطين، قائلا: إن اتجاه القبلة كان جهة الشمال في يثرب، ثم تم تغييرها إلى الجنوب تجاه الكعبة، مؤكدًا على أن المسجد الأقصى ليس أولى القبلتين الشريفتين، فضلا عن إنكاره وجود الديانة المسيحية قبل عام 70 ميلادية وأن الأناجيل كتبت في الفترة من 70 إلى 120 ميلادية، ومؤكدًا أن كلمة القدس "مفردة عبرانية لا تمت للمسيحية بصلة". الواقع أن "زيدان" ليس أول من أنكر معجزة الإسراء، على الرغم من من وردوها في القرآن الكريم في قوله تعالى « سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ » فهناك كتاب عديدون أنكروا هذه الرحلة المباركة، متذرعين بحجج عديدة، لا تصمد أمام أي بحث علمي محايد. من بين هؤلاء الكتاب الكاتب الكبير محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد صلى الله عليه وسلم) الذي طنطن كثيرا حول ما سماه بالطريقة العلمية الحديثة في كتابة السيرة النبوية، وكان من جملة ما دفعه إلى هذه الطريقة زعمه تأخر تدوين كتب الحديث والسيرة النبوية إلى ما بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم بمائة عام أو أكثر، وذلك في ظروف المنازعات السياسية والتي كان اختلاق الروايات والأحاديث. وحين صدور هذا الكتاب انبرى الشيخ مصطفى المراغي للثناء عليه والإشادة بالطريقة العلمية التي سار عليها هذه الطريقة التي تستبعد كل ما أوردته كتب الحديث والسيرة من معجزات، وإنما هو القرآن والقرآن فقط. ومما جاء في تقديم المراغي قوله: ولم تكن معجزة محمد القاهرة إلا في القرآن وهي معجزة عقلية، وما أبدع قول البوصيري: لم يمتحنا بما تعيا العقول به. حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم. ونسى الشيخ أو تناسى أن يقف عند كثير من المعجزات التي أشار إليها البوصيري في القصيدة نفسها مثل قوله: جاءت لدعوته الأشجار ساجدة.. تمشى إليه على ساق بلا قدم وممن وقف مدافعا عن هيكل أيضا الشيخ رشيد رضا الذي يقول: (أهم ما ينكره الأزهريون والطرقيون على هيكل أو أكثره مسألة المعجزات أو خوارق العادات، وقد حررتها في كتاب الوحي المحمدي من جميع مناحيها ومطاويها في الفصل الثاني وفى المقصد الثاني من الفصل الخامس بما أثبت به أن القرآن وحده هو حجة الله على ثبوت نبوة محمد بالذات ونبوة غيره من الأنبياء، وآياتهم بشهادته لا يمكن في عصرنا إثبات آية إلا بها، وأن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة،؛ لأنها موجودة في زماننا ككل زمان مضى وأن المفتونين بها هم الخرافيون من جميع الملل !). والعجيب حقا هذا الفصل الذي يقيمه المراغي ورشيد رضا وهيكل وغيرهم بين معجزة القرآن والمعجزات الأخرى (إذ لم تبلغنا معجزات رسول الله المختلفة إلا من حيث بلغتنا منه معجزة القرآن والإقدام على تأويل هذا وتسليم ذاك طبق ما يستهوى النفس ويتفق مع الغرض إسفاف غريب في تصنع البحث والفهم لا يقدم عليه من كان كريما على نفسه معتزا بعقله). والحق أن الإسراء والمعراج معجزة ثابتة بنص القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة وفى هذا السياق يقول القاضي عياض:" والحق من هذا والصحيح إن شاء الله تعالى أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها، وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار، ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة، إذ لو كان مناما لقال (بروح عبده)ولم يقل (بعبده) وقوله تعالى ( ما زاغ البصر وما طغى ). وأضاف "ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما استبعده الكفار ولا كذبوه ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به، إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته". ثم إن ظاهر السياقات يدل على ذلك من ركوبه وصعوده في المعراج وغير ذلك، ولهذا قال عز وجل: « سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ »، والتسبيح إنما يكون عند الآيات العظيمة الخارقة فدل على أنه بالروح والجسد، والعبد عبارة عنهما. ومن الشبهات التي ألقاها يوسف زيدان في لقائه التليفزيوني «المثير» للجدل، زعمه أن المسجد الأقصى ليس القائم في فلسطين الآن، ولا يمكن أن يكون كذلك، وليس إحدى القبلتين. وهذه الشبهة أيضا لم يكن زيدان أول القائلين بها، ولكن سبقه إليها كثيرون أبرزهم مفسرو الشيعة إذ يقول العياشي، أحد أبرز علماء الشيعة، عن أبي عبد الله قال: سألت عن المساجد التي لها الفضل فقال: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، قلت: والمسجد الأقصى جعلت فداك ؟ قال: ذاك في السماء، إليه أسرى برسول الله عليه وسلم، فقلت: إن الناس يقولون إنه بيت المقدس فقال: "مسجد الكوفة أفصل منه" ! وعلى هذا الدرب سار المستشرقون اليهود أبرزهم " جولد تسيهر "، وكذلك البرفيسور "أمنون كوهين" في كتابه " القدس، دراسات في تاريخ المدينة " والذي يرأس مؤسسة للأبحاث والدراسات، تقدم دراسات متخصصة – للقراء العرب والباحثين - لتاريخ القدس. وكذلك " لاتسروس يافة " الباحث في نظرة الإسلام للقدس، وكتابات كستر kister M.j، وهو من العاملين في معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية في الجامعة العبرية بالقدسالمحتلة، والوثائق التي يعدها ويوزعها بشكل واسع مؤسس " جامعة الدفاع اليهودي " ويدعى "دانيال ياسين"، وبوهل F.Buhl الذي أسند إليه كتابة تاريخ القدس في الموسوعة الإسلامية وهو يهودي صهيوني. والحق أن أبرز دليل على أن الإسراء كان للمسجد الأقصى الموجود في مدينة بيت المقدس الفلسطينية، الواقعة تحت احتلال الكيان الصهيوني وأنه أولى القبلتين هو استقبال اليهود لحادث تحويل القبلة بعد الهجرة، وفرحوا بدايةً باستقبال النبي، لقبلتهم ورأوا في ذلك مدخلا للحديث عنه، وزعموا أنه قلدهم في القبلة وسار على نهجهم مع أنه ينفذ ما أمره به ربه عز وجل، وأوحى إليه باستقبال القبلة نفذ ذلك بفرح وسرور، ولكن اليهود ظنوا أن ذلك لهوى في نفسه فحاولوا خداعه فقالوا: يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك، وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه. ولنا عبرة في كتاب الله تعالى حيث أخبر أنه سيعترض السفهاء من الناس على تغيير القبلة وتحويلها من استقبال بيت المقدس إلى استقبال المسجد الحرام، وأخبر بذلك قبل أن يأمر نبيه محمد باستقبال المسجد الحرام في قوله سبحانه وتعالى: ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم ) فوصف ممن وقع منهم هذا القول بالسفه لأنهم اعترضوا على حكم الله وشرعه، وكان في قوله السفهاء ما يغنى عن رد قولهم وعدم المبالاة به ولكنه سبحانه مع هذا لم يترك هذه الشبهة حتى أزالها وكشفها مما سيعرض لبعض القلوب من الاعتراض فقال تعالى: ( قل لله المشرق والمغرب ) أي قال يا محمد لهم مجيبا لله المشرق والمغرب وكل الجهات ملك لله. ومن الادلة أيضا ما ورد في الحديث عن أبى ذر رضى الله عنه قال: » تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل أمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدى هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنِعمَ المُصلَى هو، وليوشكن لأن يكون للرجل مثل شطن فرسه -حبلُ الفرس- من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس، خيرٌ له من الدنيا جميعًا«. المصادر: ● الكتابة العربية المعاصرة في السيرة النبوية.. قضايا وملاحظات – تأليف / أحمد بن محمد فكير ● حياة محمد – تأليف / الدكتور محمد حسن هيكل