فى مصر قامت ثورة سياسية ، ولكن لم تقم بعد ثورة فكرية وأخلاقية ، فلا تزال أخلاق كثير من المصريين فى حاجة إلى "ثورة تصحيح"،حتى يتخلصوا من منظومة "قيم سلبية"،ك"النفاق والانبطاح وتغيير الأقنعة بحسب الظروف والأحوال"! مع إعلان المستشار فاروق سلطان ،رئيس اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية ،عصر الأحد الماضى، تنصيب الدكتور محمد مرسى رئيسا لمصر ،سارع كثير ممن كانوا يحذروننا من شر الإخوان "جماعة وحزبا وسلوكا وقيما "، إلى مواكب المبتهجين بقدوم "مرسى"،مقدمين له فروض الولاء والطاعة ،ومؤكدين له أنه الأولى والأحق بحكم مصر،لنبدأ عصرا جديدا من صناعة الديكتاتور الجديد ، وكأن نفوسنا لا تطمئن ، وصدورنا لا تهدأ ، إلا إذا كان رئيسنا .."ديكتاتورا". فى تمام الرابعة والثلث من عصر الأحد الماضى، وفور الإعلان الرسمى لاسم أول رئيس منتخب لمصر ، بدأنا عصرا جديدا من صناعة "الرئيس الديكتاتور"، الذي لا ينشأ من فراغ، ولكن الشعوب المتبلدة هى التى تقوم بتمجيد الحكام وإلباسهم هالات البطولة والزعامة والعبقرية والتفرد، حتى تصل بهم إلى حد التأليه، و الديكتاتور لا ينتهي بالصورة التي بدأ عليها، ولكن من يقتربون ويستفيدون منه يحرصون على أن يصبح هكذا، التماسا لنيل المغانم وسعيا لسلطة زائفة وإرضاء لغرور طائش تراهم يتفننون في تبرير وتسويغ كل أفعاله وآثامه!. ملامح عصر صناعة ديكتاتور مصر الجديد ، تبلورت فى إعلام رسمى منبطح ،لم يتعلم من دروس الماضى القريب ،عندما كان يسبح بحمد رئيس ، يصفه اليوم ب"الفاسد والمخلوع " ،ليعيد الكرّة مع الرئيس الجديد ،بنفس المفردات والمعانى ..لأنه لا شيء يتغير فى مصر. فى هذا اليوم ،الذى كان ينبغى أن يكون تاريخيا، لأنه يشهد إعلان اسم أول رئيس مدنى منتخب فى تاريخ مصر،انبرت"بوابة الأهرام"،فى إعداد تقرير يشبّه الرئيس الجديد ،بنبى الله يوسف عليه السلام ، وبرجل الحرب والسلام الرئيس الراحل محمد أنور السادات ،بداعى أن ثلاثتهم ..تعرض للسجن ! بالتزامن مع ذلك ..ظلت قناة النيل للأخبار،تذيع على مدار الساعة فيلما وثائقيا عن الرئيس الجديد ومسقط رأسه وأهله وجيرانه ، لا يختلف كثيرا، عن نفس الفيلم الذى كان يذاع عن الرئيس السابق وقرية "كفر مصيلحة".. فى موكب النفاق والانبطاح ،انتظمت قنوات التليفزيون الرسمى ، ومحطات الإذاعة ،وعدد من القنوات الفضائية ،التى كانت تهاجم جماعة الإخوان المسلمين وحزبها وقياداتها طوال الفترة الماضية ،والتى تورطت فى فخ المجلس العسكرى ،عندما هيأت للمصريين عشية إعلان نتيجة الانتخابات، لفوز الفريق أحمد شفيق ، وأسهبت فى وصف صورة مشرقة لمستقبل الدولة المصرية، تحت قيادة "شفيق" ،باعتباره رجل دولة،وأنه لن يكون خانعا وخاضعا للمرشد العام. وفى واقعة مؤسفة..خرجت مذيعة بالإذاعة المصرية لتؤكد لأحد مسئولى حملة "مرسى" أن استباقهم إعلان النتيجة "ضربة معلم" ، بعدما كانت جميع وسائل الإعلام تصفها بالخروج غير المبرر عن الأطر القانونية والشرعية. وفى الساعات الأخيرة من يوم الأحد ،خرجت الطبعات الأولى من الصحف الرسمية والمستقلة ،تهلل بإعلان مرسى رئيسا لمصر ، وتبشرنا بميلاد الجمهورية المصرية الثانية ،وكأنها نسيت ما كانت تسطره حتى يوم السبت الماضى،عن الشر المستطير الذى ينتظر المصريين فى ظل دولة المرشد وتابعه الدكتور مرسى. ويبدو أن رؤساء تحرير الصحف الرسمية أرادوا تقديم قرابين للرئيس الجديد ليتجنبوا موجة التغييرات المرتقبة والتى قد تطيح بمعظمهم وتستبدلهم بشخصيات من داخل المؤسسة الإخوانية. وليس بمستبعد أن كثيرا من المثقفين والمفكرين والفنانين الذين كانوا يخشون من دولة الإخوان ، بدأوا الآن فى ترتيب أوراقهم والتفكير فى كيفية مواكبة الظروف الجديدة، لنشاهد عما قريب أفلاما على غرار "الضربة الجوية" ونسمع أغانى على طريقة "اخترناك"! اللافت أنه كان يقف على الشاطئ الآخر من النهر ، مراقبون محايدون يرون الحقائق عارية من الكذب ، مثل الكاتب البريطاني روبرت فيسك، الذى خصص مقاله فى صحيفة الاندبندنت، يوم الإثنين، للحديث عن الرئيس الجديد لمصر بعبارات لا تعرف نفاق إعلام منبطح ،عندما شدد على أن مرسي ليس ثوريًا وليس قوميًا ، وليس من دعاة حقوق المرأة، مندهشا من حالة الفرح المصطنعة التى سادت بعض محافظات مصر عقب إعلان النتيجة. وطالما بقيت ثقافة المصريين كما هى ،تستعصى على التغيير ،فنحن على موعد قريب لنسمع هتافات مؤيدة للرئيس مرسى على طريقة:بالروح بالدم نفديك يا مرسى ، سر ونحن خلفك، القائد والمجاهد والبطل الهمام،أنت الشعب والشعب أنت، قل ونحن نعمل ، أنت ربان السفينة، نحن فداء لك يا "ريس" ، ضياؤك أنار ظلامنا، وهكذا.. وإلى كل هؤلاء نقول: لا تتعجلوا للاحتشاد فى مواكب المنافقين والمنبطحين للرئيس الجديد، لأنه هو وإخوانه يؤمنون بأنهم يحكمون بالديكتاتورية المقدسة ، فرئيسنا ولد من رحم جماعة ديكتاتورية.