26 عاما مرت على وفاته، لكن «صلاح جاهين» .. سوف يبقى بأشعاره «فيلسوف البسطاء» ..أو كما وصفه الشاعر الكبير محمود درويش بأنه «قلبٌ يسير على قدمين» .. جاهين الساكن في قلوب المصريين المُقيم الدائم في بيوتهم برباعياته، وكاريكاتيره، وأفلامه.. صاحب «الليلة الكبيرة» وشلال الإبداع الذي لم يهدأ هديره يوماً ما حتى ودعنا في ابريل 1986 تاركاً خلفه عطاءً غزيراً في حياةٍ قصيرة لكنها حافلة...نحتفل بذكراه فى «عودة الروح» على طريقتنا الخاصة حيث ذهبنا إليه فى عالمه وأجرينا معه هذا الحوار .. فيتو: عمنا «صلاح جاهين».. نُرحب بك فى ذكراك السادسة والعشرين. جاهين: أهلاً بكم. فيتو: جاهين الشاب الذي عمره « ولا ألف عام « .. الشاعر ورسام الكاريكاتير والسيناريست والممثل .. أو «عبقرية الموهبة» كما وصف البعض موهبتك .. أي تلك المَلكات كان الأقرب إليك؟ جاهين: كل هذا كان جزءاً مني .. ربما كانت تتغلب ملكة على أخرى من حينٍ إلى حين .. أحياناً الرسم .. أحياناً الشعر وهكذا. فيتو: كيف استطعتَ أن تكون بذلك القرب من الجماهير الذي حسدكَ عليه الكثيرون الذين فشلوا فى تحقيق هذه المعادلة رغم عمرهم المديد؟ جاهين: لقد كنتُ ببساطة واحداً من هذه الجماهير .. لم أكنْ من كوكب آخر أو من عالم بعيد عنهم. فيتو: ولكن من الفنانين من يأخذهم الغرور فما تقول لهم؟ جاهين: أبلغهم عنى أشعارى القديمة : «إنسان أيا إنسان ما أجهلك .. ما أتفهك في الكون وما أضألك .. شمس وقمر وسدوم وملايين نجوم .. وفاكرها يا موهوم مخلوقة لك .. عجبي ! فيتو: رغم بساطة أشعارك إلا أنها لم تكن تخلو من بعد فلسفي عميق .. كيف جمعت بين الأمرين؟ جاهين: ليس شرطاً أن تكون صاحب علم وشهادات ومناصب كي تفهمها وتعبر عنها .. البسطاء الأميون تجد في كلامهم فلسفةً وعمقاً أعمق من كلامنا،بل أعمق من نصوص أعظم الفلاسفة. فيتو: كانت آمالكم في ثورة 23 يوليو بلا حدود .. عبّرتَ عنها أنت وجيلٌ كاملٌ من الفنانين شعراً ونثراً وسينما وفناً خالداً .. هل خذلتكم فيما بعد؟ جاهين: الثورة لم تكن بالنسبة لجيلي مجرد تغيير سياسي يحدث في البلد .. كانت مشروعاً قومياً وحلماً اشتراكياً نبيلاً .. سرت في عروقنا وقلوبنا سريان النيل السلسبيل في أرض مصر الطيبة. فيتو: هل آمنتم بها إلى هذا الحد؟ جاهين: ايماناً لا يتزعزع . فيتو: شكلتَ أنت و»كمال الطويل» و»عبد الحليم حافظ» ثلاثي التغني بأمجاد الثورة وأحلامها وقائدها «جمال عبد الناصر» .. كنتم صوت الثورة كما سماكم البعض .. غنيتم «صورة» و»يا أهلاً بالمعارك» و «ناصر يا حرية» و»احنا الشعب» و»بالأحضان» وغيرهم الكثير .. هل رأيت في هذا نوعاً من نفاق السلطة؟ جاهين: على الإطلاق .. فعبد الناصر لم يكن مجرد زعيم .. كان رمزاً للحلم والثورة والتحرير والوحدة . فيتو: كيف ترى إذن التغني بأمجاد الزعماء في زماننا هذا؟ جاهين: أراه عين النفاق. فيتو: ألا ترى في هذا نوعاً من الازدواجية؟ جاهين: أنت لا تستطيع أن تحاسب زمان إلا بظروفه وبتجربته .. الزمن كان مُختلفاً والتجربة ذاتها كانت مختلفة .. كما أخبرتك عبد الناصر بالنسبة لنا لم يكن قائداً زائفاً .. لقد كان صاحب مشروع .. كان مُلهِماً لنا بحق . فيتو: إذن هل غفرت له النكسة؟ جاهين: النكسة كانت أكبر من عبد الناصر وإن كان هو سبباً رئيسياً لها. فيتو: كيف رأيت اتجاه المسار بعد رحيل عبد الناصر؟ جاهين: كان قاسياً بشدة .. كان ارتداداً على كل الأحلام ومحوا لكل الخطوات التي مشيناها وحفرناها في الصخر .. عزل مصر عن مُحيطها العربي والقومي وتقزيم دورها .. لا أقوى حتى على التذكر. فيتو: هل لهذا كتبت «بحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء» ؟ - جاهين مُقاطعا: وأكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء وأسيبها وأطفش في درب وتبقى هيا في درب .. وتلتفت تلتقيني جنبها في الكرب والنبض ينفض عروقي بألف نغمة وضرب .. على اسم مصر» .. ثم أردف قائلاً: تُجددين عليا الذكريات وتُحييها في قلبي من جديد. فيتو: كان همك الإنسان يا عم جاهين .. لقد كنت مبهراً وأنت تُجسد انتماءك للإنسانية بأسرها .. أما خشيت أن يتهمك أحد في قوميتك وعروبتك؟ جاهين: لقد كنت أقول ما أؤمن به دون أن أشغل نفسي كثيراً بردود أفعال الناس .. انتمائي القومي العربي كان مُكوني الأساسي ولكن انتمائي للإنسانية يُجبرني أن أمدح كل ما أراه جميلاً في المختلفين عني بل والمحاربين لي في بعض الأحيان. فيتو: أتعبتك الدنيا كثيراً يا عم جاهين .. أليس كذلك؟ جاهين: هذه الدنيا تتعب كل من كان له قلب .. « أنا كان لي أب وكان رئيس محكمة .. ستين سنة في قضية واحدة اترمى .. ستين سنة وطلع براءة وخرج .. يشكي الحياة والموت لرب السما .. وعجبي! فيتو: كيف رأيت ثورة 25 يناير؟ جاهين: رأيتها اكتمال الحلم الذي حلم به جيلي ولم يُكتب لنا تمامه. فيتو: هل تظن أنه سيكتمل هذه المرة؟ جاهين: عليكم أن تصروا على اكتماله وأن تتعلموا من أخطائنا وأخطاء جيلي وألا تنكسروا ولا تُحبَطوا مهما كان الثمن. فيتو: بمَ تنصح الثوار إذن؟ جاهين: «اتكلموا .. الكلمة إيد .. الكلمة رجل .. الكلمة باب .. الكلمة نجمة كهربية في الضباب .. الكلمة كوبري صلب فوق بحر العباب .. الجن يا أحباب ما يقدر يهدمه». فيتو: ولكن البعض يرى الكلام قاتلاً في بعض الأحيان .. هل ترى لهم حقا في ذلك؟ جاهين: الكلام لا يُخيف إلا الظالمين .. «يا عندليب متخفش من غنوتك .. قول شكوتك واحكي عن بلوتك .. الغنوة مش هتموتك .. إنما كتم الغنا هو اللي هيموتك». فيتو: مصر التي على اسمها التاريخ يقدر يقول ما شاء .. كيف تراها اليوم؟ جاهين: أراها كما كانت وستظل أراها « أجمل وأحب الأشياء» .. لابد أن تنظروا لها بعين المحبين العاشقين وتعلموا أن المتربصين بها كثير .. كان هذا قدرها من يوم أن خلق الله الدنيا. فيتو: في نهاية حوارنا بماذا توصينا وأنت تعلم ما نحن فيه؟ جاهين:أقول لكل ثائر حقيقى : «خوض معركتها زي جدك ما خاض .. صالب وقالب شفتك بامتعاض .. هي كده متنولش منها الأمل .. غير بعد صد ورد ووجع ومخاض».