يا أهل الحارة الكرام ، تعرفونني طبعا وتستمتعون بأحاديثي، ولكنني اليوم سأضع لساني في فمي وأغلق عليه بالضبة والمفتاح، هه ماذا تقولون ؟! تظنون أنني لم أشرب اليوم لذلك انعقد لساني، لا والله إن لساني لا رقيب عليه إلا الله سبحانه، ولكن أليس لي نِفس أن أمتنع عن الكتابة هذا الأسبوع ؟ هذا حقي ولا يماريني أحد في حقي، وهذه فرصة ذهبية خاصة أن رئيس التحرير على سفر، والأستاذ زكريا خضر صاحب السلطة والسلطان في الجريدة يحبني حبا جما وسيسمح لي بأجازة أستريح فيها من عناء قدح الذهن خاصة أن القداحة باتت لا تعمل في هذه الأيام السوداء بعيد عنكم. وقف أحد الصحفيين من أهل الحارة وقال لأبو يكح الجوسقي: بالأمر المباشر ستكتب، ألا ترى عناية السيد الأستاذ القدير الجدير المدير المخرج الصحفي أطال الله عمره يقف منتظرا ما ستكتبه حتى يضعه في إطاره، قم فذ واكتب حتى ننتهي من هذه التناكة التي تبديها لنا كل أسبوع يا طويل اللسان. قال أبو يكح : لن أكتب إلا إذا أحضرت لي قدحا كبيرا من الجعة، أريد أن يذهب عقلي إلى غير رجعة، فقلبي ذلك المسكين لا يتحمل ما يحدث في مصر حاليا. ناوله أحد المتحلقين حوله قدحا كبيرا من الجعة فتجرعه أبو يكح دفعة واحدة كأنه يشرب المحيط، وهنا انفصل أبو يكح عن أهل الحارة، وكأنه يقف وحده في صحراء جرداء، ثم انفصل عن نفسه وظهر أمام عينيه رجل آخر هو نفسه أبو يكح الجوسقي الثاني، وبعد أن تطوح الجوسقي الأول ثم قال لنفسه بعد أن مسح فمه من أثر الشراب : أمري لله سأكتب،سأكتب, ولكن أكتب عن ماذا ؟ وجدتها، وجدتها، سأكتب مقالة مسخرة عن المجلس العسكري وخططه الرامية إلى تأجيل تسليم الدولة للمدنيين، وقدراته الفائقة في الإيقاع بالقوى السياسية الساذجة في براثنه، وعن التدبيرات التي يبدو أن المجلس العسكري ليس بعيدا عنها خاصة أحداث العباسية والدماء الطاهرة التي سالت نتيجة ذلك العدوان النازي من الطرف الثالث تحت رعاية المخرج مخرج المجلس العسكري وليس مخرج فيتو قطعا ضد المتظاهرين الثوريين السلميين ،وسأكتب أيضا عن تلك القوى السياسية الباهتة المخزية التي لم ولن تعبر عن الشعب والخلافات التي استحكمت بين السادة الأفاضل الذين نحسبهم من النخب المحترمة، وتهافت المواقف التي صدرت منهم أو بالأحرى عدم وجود موقف وطني حقيقي لهم وعند هذا الحد صمت الجوسقي برهة فقال له الجوسقي الثاني : يا ويح نفسك، تبا لها، ضع لسانك في فمك والتزم الصمت يا فتى مخافة أن تقع لك ما يحمد عقباه لدى الشامتين وما لا يحمد عقباه لدى الفاهمين، أأنت مجنون ! هل تجرؤ على كيل الاتهامات للمجلس العسكري، ثكلتك أمك يا جوسقي، لا تقترب من المشير والفريق فهما خط أحمر، أتريد أن تذهب إلى الشهداء الأبرار وأنت مازلت في شرخ الشيخوخة، دعك من هذا الموضوع واكتب عن شيء آخر. استطرد الجوسقي الثاني متثائبا وهو يحدث نفسه: أكتب يا فتى عن مؤسسة القضاء المصري والفساد الذي ضرب أطنابه في أروقته، أكتب عن المستشار فاروق سلطان رئيس اللجنة المشرفة على انتخابات رئاسة الجمهورية وعن المستشار عبد المعز صاحب نظرية تهريب الأمريكان من مصر، اضرب فيهم بقلمك ولا تخشى شيئا، وحين أمسك أبو يكح بالقلم ليكتب إلا أنه وجد القلم توقف عن الكتابة لغير سبب !! فقال لنفسه وهو جد مغتاظ : نظراً لأنني أحب قلمي وأعتبره من أصدقائي المقربين فقد أذعنت له وقلت الطيب أحسن أكتب يا ولد في موضوع آخر لعل القلم يرضى عنك ويجري على الورقة، فقالت له نفسه التي تقف بجواره : اكتب عن خيرت الشاطر قبضاي جماعة الإخوان، قل كل ما لديك عن ذلك الشاطر الذي أخذ يبحث عن حلم راوده وداعب جفونه وهو حلم أن يكون رئيسا لمصر ثم خليفة للمسلمين أبد الآبدين، وفي سبيل ذلك يقدم مشروعه الشخصي كتاجر شنطة ثم يفتح مصر ثم يغلقها على جماعته بالضبة والمفتاح، قل إنه في سبيل ذلك باع الثورة المصرية وأخذ يغازل أساطين الحكم في مصر ويرجو هواهم فلما ازداد طموحه وتنامى وظن أن مصر في قبضته أخذ يستقبل مراسيل أمريكا ويستعطفها !! ولكن نفس أبو يكح الزاجرة زجرته وقالت له : أسكت واصمت يا فتى فأنت في صمتك مرغم ، ألم تتعلم من قول خيرت الشاطر إن لديه القدرة على رصد الاتصالات ولأنه يستطيع الجهاد المسلح، ثم أردفت نفسه الزاجرة قائلة : ولتعلم يا فتى أن سطوة خيرت الشاطر ما زالت مضرب الأمثال ورجاله يستطيعون شن غارات عليك وعلى حارة درب المهابيل كلها .. ضع في فمك ماء واقصف قلمك أو دع هذا الموضوع واكتب في غيره. جلس أبو يكح على الأرض وقد أصابه الملل فجلس خياله بجواره وقال له : عندي فكرة نميسة، أكتب عن الملك عبد الله آل سعود ملك السعودية والعلاقات بين مصر والمملكة وأسلوب التعالي الذي تتعامل به المملكة مع مصر، وظنها أن الكعبة والمسجد النبوي والأراضي المقدسة هي ملك لها ولذلك فمن حقها أن تمنع عن شعبنا العمرة والحج عندما تأخذ على خاطرها من مصر، وهنا قام خيال أبو يكح وصفعه على وجهه وقال له : أسكت أيها الغر الأحمق، ألم تر وفود مصر التي ذهبت لتركع عند قدم الملك هناك، ألم تر الكتاتني وهو يقدم فروض الولاء والطاعة للأسرة المالكة في السعودية، خسئت وخاب مسعاك حين تحاول الوقيعة بين المملكة وجماعة الإخوان، عفوا أقصد المملكة ومصر، أكتب عن شيء آخر أحسن لك، والطيب أحسن. سكت أبو يكح برهة، ثم سكت لحظة، ثم سكت هنيهة، ثم قال لنفسه وهو يحاورها وسط أهل الحارة مدعيا الشجاعة: ليس هناك أفضل من وزير الداخلية فقد حقق الرقم القياسي في الرصاص الخرطوش الذي تم إطلاقه على المتظاهرين وإلقاء القبض على الثوار بالجملة وضرب الناس في المظاهرات، والتغاضي عن الحرائق التي أصابت مصر من أقصاها إلى أدناها، وغض البصر عن قطاع الطرق واللصوص، والفشل في معرفة الطرف الثالث، وإذا بقلب أبو يكح ينبض بشدة وإذا بصوت جهوري ينبعث من نفسه التي تقف بجواره : انت مجنون هل وصلت بك الحماقة كى تكتب منتقداً وزير الداخلية اعقل أحسن لك فالخرطوش من الممكن أن يصل إليك من أقصر طريق ، ويا ليت الأمر سيتوقف عند حد الخرطوش إذ من الممكن أن يتطور للرصاص الحي.. فقال الجوسقي لنفسه بصوت خائف خافت: وزير الداخلية رجل محترم جدا وأنا أقدر مبررات حبسه للثوار، وقتلهم، وسحلهم، إذ أنني أعرف أن دمهم ثقيل على قلبه – وربنا يجعل كلامي خفيف على قلبه -. وقف أبو يكح وقد نازعته نفسه وكثيرا ما تنازعه كي يرتدي ثوب البطولة فقالت له نفسه: أكتب عن الفشل المقصود الذي أصاب محاكمات الفلول والضباط الذين قتلوا الثوار، وكان الفشل الأكبر هو ما أصاب محاكمة الرئيس المخلوع مبارك ، وعن خلو القضية من الأدلة وكأنها صُنعت ليحصل الرجل على براءة !! أكتب عن أننا من بعد الإطاحة بمبارك ونحن نخرج من فشل لندخل إلى فشل آخر.. حدث ولا حرج عن الفقر الذي استحكم.. وعن تعديلات دستورية تمت ذات يوم بتخطيط وترتيب من رجال كنا نظنهم رجالا ، وعن إعلان دستوري لا يبتغي وجه الوطن ولكن يمهد الطريق لمن يريد أن يحكم.. وعن فسادٍ عاد فسادا ، وذهب ذهب به من ذهب ، ومال مال ببعضهم عن الحق ، وفضة فضها الفاسدون في خزائنهم من جيوبنا.. ولكن والحمد لله ألقم أبو يكح نفسه درسا في الأدب والأخلاق الحكيمة وشكمها حتى لا يفلت زمامها ،وأخذ يقول لنفسه لو نبست ببنت شفة سأبلغ عنك وليحدث لك ما يحدث ... قلة أدب نفوس صحيح . وأخيراً يا أهل حارة درب المهابيل الأفضل أن أعتذر عن المقالة ، لذلك نعتذر لعدم الكتابة هذا الأسبوع.