من ليس يسخو بما تسخو الحياة به فإنّه أحمق بالحرص ينتحر إني وجدتُ الحبَّ علماً قيما أحبب فيغدو الكوخ قصراً نيرا «خَلِّني أستصرخُ القومَ النياما، أنا لا أرضى لمصرٍ أن تُضاما، لا تلُم في نصرة الحقِ فتىً، هاجه العابثُ بالحق فلاما».. هذه كلمات ثائرة، صاغها الشاعر اللبنانى «إيليا أبو ماضى»، عندما هدد الطغيانُ مصر فى حياته، ورغم رحيل صاحبها، قبل «55» عاما، إلا أنى أجدها حاضرة فى ذهنى بقوة، كلما احتشدت الحشود، فى ميادين مصر، وأمام القصر الرئاسى، مطالبين بإسقاط الطغيان الإخوانى.. «إيليا أبو ماضى»، لم يكن مجرد شاعر يقرض الشعر، بل كان فيلسوفا، وبرز ذلك فى الموضوعات والقضايا، التى طرحها فى دواوينه، فأبقته فى الذاكرة العربية خالدا، حتى الآن.. وأنا شخصيا، تعجبنى أشعار «إيليا أبو ماضى»، التى تحدث فيها عن الحمقى من البشر، مثل: المتكبرين بما أتاهم الله من فضله، أو الذين يملأ قلوبهم الغل والحقد والشر، فيقضون الأيام والليالى فى تدبير السوء لغيرهم، ذلك لأن لغة الشاعر، تميزت، فى معالجة هذه الموضوعات، بالبساطة واليسر، ولم تجنح إلى التعقيد والشطط.. على مقهى بسيط، فى العالم الآخر، وجدته ينتظرنى فى الموعد المحدد سلفا، وعندما همّ بمعاتبتى، لتأخرى نحوا من عشر دقائق، اعتذرت له، وأبلغته أن المظاهرات الغاضبة، فى ميادين مصر وشوارعها، هى السبب فى عدم وصولى فى الموعد الذى حددته بنفسى، فتفهم الرجل موقفى، لكنه سألنى عن أسباب هذه المظاهرات، فقلت له: إن الغضب العارم، يعم ربوع مصر، بسبب الطغيان الإخوانى، الذى أحدثه حكم مرشد جماعة الإخوان المسلمين، ورجاله، بمن فيهم مندوبه فى القصر الرئاسى، فانسابت عيناه بالدمع، على حال مصر، التى قضى فى رحابها سنوات من عمره، ثم أنشد: «خَلِّني أستصرخُ القومَ النياما، أنا لا أرضى لمصرٍ أن تُضاما، لا تلُم في نصرة الحقِ فتىً، هاجه العابثُ بالحق فلاما»، فقاطعته: بل إن ميليشيات الإخوان تصطاد الثائرين، فتأسرهم وتقتلهم، ولا ينقص سوى أن تدخلهم النار، فتبسم الرجل من قولى، ولكن ابتسامته كانت كالبكاء.. قلت لمُضيفى: بعض كبار الجماعة، الذين يكتنزون المال الكثير، مثل نائب المرشد «خيرت الشاطر»، غرتهم قوتهم، فراحوا يعيثون فى الأرض، لا يخشون فى أبناء وطنهم، إلّا ولا ذمة..، حينئذ عقّب «إيليا» قائلا: قل للغني المستعز بماله مهلا لقد أسرفت في الخُيلاء جُبل الفقير أخوك من طين ومن ماء ومن طين جُبلت وماء فمن السفالة أن يراك مبذرا ويكون رهن مصائب وبلاء أصدقكم القول: لم ترق لى هذه البداية الملتهبة لحوار، كنت أخطط له، أن يكون «استراحة»، من سخونة المشهد السياسى المصرى وارتباكه، ما دفعنى إلى تغيير دفة الحوار، فعدتُ بالشاعر الراحل إلى مراحل حياته الأولى، فسألته عن الفترة التى قضاها فى مصر، فأجاب: عندما اشتد بى الفقر في بلدى لبنان، رحلت إلى مصر عام 1902 بهدف التجارة مع عمى الذي كان يمتهن تجارة التبغ، فالتقيتُ بأنطون الجميل، الذي كان قد أنشأ مع أمين تقي الدين مجلة «الزهور» فراقت موهبتى له، ودعانى إلى الكتابة بالمجلة، فنشر أولى قصائدى، وظللت أنشر بمجلته، حتى أصدرتُ ديوانى الأول: «تذكار الماضي»، في عام 1911، وطبعته لى المطبعة المصرية، وكان عمرى يومئذ 22 عاما. صمت الرجل لحظات، كأنه كان يستدعى من ذاكرته شيئا، ثم قال: آه للوطن عندما يتكالب عليه الذئاب، ثم أنشد: «يا جارتي كان لي أهلٌ وإخوان، فبتّت الحرب ما بيني وبينهم، كما تقطع أمراس وخيطان، فاليوم كل الذي فيه مهجتي ألم، وكل ما حولهم بؤس وأحزان، وكان لي أمل إذا كان لي وطن». قلت ل«إيليا»، وصفك النقاد بأنك شاعر الأمل والتفاؤل.. فقاطعنى: لا حياة بلا أمل، وبدون التفاؤل، تكون الحياة والموت سواء، ثم استدعى من ذاكرته شعرا، يقول: «قال السماء كئيبةً وتجهمَ، قلت ابتسم يكفي التجهم في السما، قال الصبا ولّى فقلت له ابتسم، لن يرجع الأسف الصبا المتصرّما. قلت: بم تنصح أولئك الشاكين المتبرمين، الذين يرون القبيح جميلا، والوجود كئيبا، فأنشد «إيليا»: أيهذا الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟ إن شر الجناة في الأرض نفس تتوقى قبل الرحيل الرحيلا وترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى فوقها الندى إكليلا هو عبء على الحياة ثقيل من يظن الحياة عبئا ثقيلا والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الحياة شيئا جميلا فتمتّعْ بالصُّبحِ ما دُمتَ فيهِ لا تخفْ أنْ يزولَ حتّى يزولا أيهذا الشاكي وما بك داء كن جميلا تري الوجود جميلا طربت نفسى لهذه الحكمة البليغة من رجل عارك الحياة، وعاركته، فأردتُ أن أنتهز لحظات التجلى، التى يحياها الفقيد «أبو ماضى»، فسألته: وماذا تقول فيمن نسوا أصلهم، وتنصلوا منه، عندما هشت لهم الدنيا، وأغناهم الله بعد فقر، وحررهم بعد سجن واعتقال؟ بعد لحظات قليلة، بدا أنه استدعى ما نظمه فى هذا السياق، قبل رحيله، أنشد «إيليا»: نسي الطين ساعة أنه طين حقير فصال تيها وعربد وكسى الخزّ جسمه فتباهى وحوى المال كيسه فتمرّد يا أخي لا تمل بوجهك عنّي ما أنا فحمة ولا أنت فرقد قاطعته قائلا: يبدو أن الحياة الجديدة، تنسيهم ماضيهم الحزين، فعقب قائلا: انقل عنى إلي كل متكبر مغرور، هذه الكلمات: أنت لم تصنع الحرير الذي تلبس واللؤلؤ الذي تتقلّد أنت لا تأكل النضار إذا جعت ولا تشرب الجمان المنضّد أنت في البردة الموشّاة مثلي في كسائي الرديم تشقى وتسعد أيّها المزدهي، إذا مسّك السقم ألا تشتكي؟ ألا تتنهد؟ أنت مثلي من الثرى وإليه فلماذا، يا صاحبي، التيه والصّد أيّها الطين لست أنقى وأسمى من تراب تدوس أو تتوسّد سُدت أو لم تسد فما أنت إلاّ حيوان مسيّر مستعبد لا يكن للخصام قلبك مأوى إنّ قلبي للحبّ أصبح معبد أنا أولى بالحب منك وأحرى من كساء يبلى ومال ينفد قلت: سيدى، عظنى، هل يقابل الإنسان الإساءة بالإساءة، والقبح بالقبح؟ نظر «إيليا» إلىّ قليلا، ثم تبسم، وكأنه استحسن سؤالى، ثم أنشد: كن بلسماً إن صار دهرُك أرقما وحلاوة إن صار غيرُك علقما أحسنْ وإن لم تُجز حتى بالثنا أي الجزاء الغيثُ يبغي إن همى من ذا يكافئ زهرة فواحةً أو من يثيبُ البلبل المترنما عُد الكرامَ المحسنين وقِسْهُم بهما تجدْ هذينِ منهم أكرما يا صاحِ خُذ علم المحبة عنهما إني وجدتُ الحبَّ علماً قيما أحبب فيغدو الكوخ قصراً نيرا وابغض فيمسى الكون سجناً مظلما قلت: سيد «إيليا»، هذه الأبيات تذكرنى بأبيات أخرى لك عن الحمقى الأنانيين، الذين لا يرون فى المرايا إلا ذواتهم، ولا يحبون إلا أنفسهم، فأطلق ضحكة خفيفة، ثم قال: حسنا، حسنا، وبعدها أنشد: وتينة غضة الأفنان باسقة قالت لأترابها والصيف يحتضر بئس القضاء الذي في الأرض أوجدني عندي الجمال وغيري عنده النظر لأحبسنّ على نفسي عوارفها فلا يبين لها في غيرها أثر إنّي مفصلة ظلّي على جسدي فلا يكون به طول ولا قصر ولست مثمرة إلا على ثقة إن ليس يطرقني طير ولا بشر عاد الربيع إلى الدنيا بموكبه فازّينت واكتست بالسندس الشجر وظلّت التينة الحمقاء عارية كأنّها وتد في الأرض أو حجر ولم يطق صاحب البستان رؤيتها، فاجتثّها، فهوت في النار تستعر من ليس يسخو بما تسخو الحياة به فإنّه أحمق بالحرص ينتحر قلت: سيدى، بعد هذه الرحلة غير القصيرة، مع الحياة وتقلباتها، ومثلها تقريبا مع الموت، بماذا يمكن أن نختم حوارنا؟ أجابنى «إيليا أبو ماضى» فى ثقة: جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيتُ ولقد أبصرت قُدّامي طريقا فمشيتُ وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيتُ كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري! أجديد أم قديم أنا في هذا الوجودْ هل أنا حرٌ طليقٌ أم أسيرٌ في قيودْ هل أنا قائدُ نفسي في حياتي أم مقود أتمنّى أنني ادري ولكن لست أدري! C V الاسم : إيليا ضاهر أبو ماضي، عاش بين عامى 1889-1957. محل الميلاد: المحيدثة المتن الشمالي – لبنان. يأتي ثالثا في شهرته بين شعراء المهجر، واتصف شعره بالجرأة في التعامل مع اللغة ومع القالب العمودي الموروث. أصدر مجلة «السمير» عام 1929، التي تعد مصدراً أساسياً من مصادر الأدب المهجري، واستمرت في الصدور حتى وفاته عام 1957.