لو جمعت أوصاف الثوار الذين أقاموا ثورة يناير ورددتها إلى ماقاموا به من عمل عظيم من جمع شمل الأمة على قلب واحد و عقل واع ، لوجدت هؤلاء قد جمعتهم أخوة وطنية صادقة لا تفرق بل تجمع ، ولا تصنف بل توحد ، نظروا إلى وطنهم نظرة مخلصة ، وأسسوا حركتهم فيه على أساس من البذل والتضحية له ، بما يكون عليهم من واجبات تجاهه ، لا بما يكون على أفراده من حق أو مكسب لهم ، فغرسوا فى تاريخ مصر غرساً جديداً ، ليكون حداً لزمن وأولاً لزمن من بعده قادم ، لقد قاموا بثورة سلمية على الظلم والاستبداد ، نجحت فيما لم تنجح فيه ثورة عرابى أمام رأس النظام ، وكأنهم يشهدون مشهده ويقولون مقالته أمام الطاغية الجائر ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) . هذه الثورة ناصعة البيضاء نبذت العنف وأكدت سلميتها من أول يوم لها ، وإن واجهها الطاغوت بسلاحه وفتكه ، فى مشهد دموى لم نر له مثيلاً فى تاريخ مصر المعاصر ، فما غير ذلك من منهج الثائرين وأسلوبهم ، فظلوا على سلميتهم واعتصامهم وإصرارهم على مطالبهم المشروعة ، فكان من منطق نبلهم وأمانتهم وصدقهم ووطنيتهم ونقائهم وتضحيتهم أن أنهارت أمامهم قمة الصرح الذى بنى على الفساد والكذب والتواطؤ والنهب والنفاق والغطرسة والظلم ، إنهار رأس النظام من هول الحدث التاريخى الذى اجتمع فيه كل ذلك النقاء والصدقوعبق هذا الطهر والعفاف . وماحدث أثناء الثورة وما تحقق فيها فى أيام قلائل شكل نموذجاً راقياً قام على نمط إنساني رفيع يجمع فكرة الخير والكمال ومكارم الأخلاق وجماع عظائم النفوس وكرامتها ، فكان هذا عين مادعا إليه الإسلام كوسيلة منهجية وليس غاية شكلية ، تكمن فى وحدانية عقيدته ومقاصد شريعته . أوشك جسد النظام ذاته أن يتهاوى بعد رأسه ، لولما حدث أثناء ذلك من جنوح وفتنة مدفوعة من الموتورين الطامعين فى المكاسب والأغنام قبل أن تضع الحرب أوزارها ، فبرزت التيارات المتأسلمة من مكامنها ، وانكشفت محاولتها لتوظيف هذا المشهد الثورى الرائع لمصالحها السياسية الضيقة ، وظهر اتفاقها مع النظام الجائر ذاته لتدمير المد الثورى وتصوير الأمر كإدارة أزمة لاتغيير ثورى شامل لقاء جزرة موعودة ، فما أحدثته دعواتها للإقصاء والتكفير والتنفير فى المشهد من خلل وتشويه أعطب الصورة النقية التى أسسها الثوار الأصليين ، والتى شكلت أقوى أسلحة الثورة وأشدها فتكاً بالظالمين ، والتى هى أقرب لمفهوم الإسلام الغض مما دعوا إليه وألبوا عليه . ولما انكشفت الخديعة ورأى هؤلاء الموتورون خفى حنين يلوح لهم فى الأفق القريب ، تعالت صيحاتهم وتهديداتهم الجوفاء للعسكر بإراقة الدماء والدعوة إلى إعلان الجهاد عليه وتشكيل المليونيات فى سبيل مكاسبهم الزائلة ، وهيهات ، فلن يحركوا لهم شعرة ، فإنهم يفتقدون أسلحة الصدق والإخلاص والإيثارالتى امتلكها الثوار ، فسقطوا بما فعلوا ، ولقد هموا بما لم ينالوا ،فإن يتوبوا يك خيراً لهم ، وعليهم أن يعترفوا بذنبهم كما اعترف المخلفون من قبل ، وأن يعيدوا الراية المستلبة إلى أصحابها الحقيقيين ، فلا يصلح هذا الأمر إلا بما صلح به أوله ، وسيصلح بعون الله شاءوا أم أبوا .