فكر ثم كتب فحُكم عليه بالإعدام.. هذا حال الكاتب الموريتانى محمد الشيخ ولد المخيطير، الذي بحث في السيرة النبوية فسجل بعض الملاحظات، من وجهة نظره التي قد تكون قاصرة، فكتب مطالبًا بضرورة تنقيتها، ليواجه بعدها بسيل من التهم لينتهى به المطاف بحكم قضائى ضده بالإعدام رميًا بالرصاص بتهمة «الإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم». «المخيطير» انتقى في مقاله الذي نشره منذ شهور قليلة بعض المواقف التي رأى أنها تم اجتزاؤها من سياقها، ما دفع النقاد لتأكيد أن «المقال ضعيف البنية اللغوية»، فمحاولاته للمقارنة بين مواقف رآها متناقضة في السيرة النبوية بدأت بمقارنته لتعامل النبى (صلى الله عليه وسلم) مع هند بنت عتبة و«وحشيّ»، وكلاهما شارك في قتل حمزة بن عبد المطلب، كما قارن بين قتل النبى ليهود بنى قريظة وعفوه عن مشركى مكة، وعلى إثر ذلك تم توجيه اتهامات له بالفهم القاصر والابتعاد عن الأسباب والمقاصد الشرعية التي دفعت الرسول (صلى الله عليه وسلم) للموقفين. وبالفعل، حكمت المحكمة الجنائية بمدينة نواذيبو في موريتانيا بالإعدام حدًا على ولد المخيطير، بالإضافة إلى مطالبة النيابة العامة في مرافعاتها بإعدامه رميًا بالرصاص، وفقًا للقانون الجنائى الموريتاني، الذي يستمد أحكامه من الشريعة الإسلامية. حكم الإعدام، دفع «ولد المخيطير» لكتابة مقال توضيحى بعد نشر مقاله الأول، أكد فيه عدم توجيه الإساءة للرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأن الغرض من كلامه توضيح وقائع تاريخية، قائلا: «لم أسئ فيما مضى عن قصد أو عن غير قصد للرسول صلى الله عليه وسلم ولن أفعل مستقبلا، ولا أؤمن أن في هذا العالم من هو أكثر منى احترامًا له صلى الله عليه وسلم». وأضاف: «اعلموا أننى لم ولن أسيء للنبى صلى الله عليه وسلم وأننى أتفهم جدا حجم غيرتكم للرسول الكريم، والتي هي تمامًا كغيرتى وحبى له، وأننا جميعا في مستوى واحد للدفاع عن كل مساس بمقدساتنا». أما مقال الكاتب الشاب محمد الشيخ ولد المخيطير، الذي تسبب في الحكم عليه بالإعدام، فنصه كالآتي: «الدين والتدين والمعلمين» لا علاقة للدين بقضيتكم أيها المعلمون الكرام فلا أنساب في الدين ولا طبقية ولا «المعلمين» ولا «بيظان» وهم يحزنون.. مشكلتكم إن صح ما تقولون يمكن إدراجها فيما يعرف ب»التدين».. تلكم أطروحة جديدة وقد وجدت من بين المعلمين أنفسهم من يدافع عنها.. حسنا.. دعونا الآن نعود للدين والتدين حتى نتبين موقع الأنساب والطبقية من الدين... ما الفرق بين الدين والتدين؟ يقول الدكتور عبد المجيد النجار (إن حقيقة الدين تختلف عن حقيقة التدين؛ إذ الدين هو ذات التعاليم التي هي شرع إلهي، والتدين هو التشرع بتلك التعاليم، فهو كسب إنساني، وهذا الفارق في الحقيقة بينهما يفضى إلى فارق في الخصائص، واختلاف في الأحكام بالنسبة لكل منهما).. كتاب الأمة. إذن: الدين هو وضع إلهى والتدين كسب بشري.. متى كان الدين ومتى كان التدين؟ مما لا شك فيه أننا إذا قسمنا الفترة الزمنية للإسلام إلى قسمين سنجد: - فترة حياة محمد وهى فترة دين - ما بعد محمد وهى فترة تدين تعالوا بنا لنأخذ بعض المشاهد من عصر الدين: الزمان: بعد معركة بدر 624 ميلادية المكان: يثرب ماذا حدث؟ الأسرى من قريش في قبضة المسلمين والحكم قد صدر بما يلي: قال المستشار الأول لرسول الله «أبو بكر الصديق»: «يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإنى أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا». ملاحظة: من الكفار إذا هنا في رأى أبى بكر؟ ثم كان بعد ذلك قرار أبى بكر هو القرار النهائى مع إضافة عملية التعليم لمن لا يملك المال. لكن مهلا.... لقد كانت هنالك حالة استثنائية فقد أرادت زينب بنت رسول الله افتداء زوجها أبى العاص بقلادة لها كانت عند خديجة، فلما رآها رسول الله رقّ لها رقّةً شديدة، وقال لأصحابه: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فوافقوا على ذلك)، رواه أبو داود. برأيكم ما هذا الاستثناء؟ الزمان: 625 ميلادية المكان: أحد الحدث: قتال بين المسلمين وقريش قريش في مواجهة المسلمين انتقاما لبدر ورغبة في القضاء على محمد واتباعه، هند بنت عتبة تستأجر وحشى لقتل حمزة مقابل حريته ومكافأة مالية تتمثل في حليها. هند تصل للهدف وتمثل في جثة حمزة. وبعد سنوات عدة وأيام ما يعرف بفتح مكة دخلت هند في الإسلام لتنال اللقب الشهير «عزيزة في الكفر... عزيزة في الإسلام»، أما وحشى فأمره النبى أن يتوارى عن أنظاره عند دخوله الإسلام. هند قرشية ووحشى حبشى وإلا فما سبب التمييز بينهما وهم في الجرم على الأقل سواء أو إن شئتم الدقة فهند هي المذنب الحقيقى وما ذنب عبد مأجور. دائما وفى نفس المعركة – أحد- ولنقارن ما حدث ل«وحشي» مع دور شخص آخر هو خالد بن الوليد، حيث إن هذا الرجل كان السبب الرئيسى في هزيمة المسلمين في «أحد» وقتل عددًا من المسلمين وعند دخوله الإسلام أخذ اللقب الشهير «سيف الله المسلول»، فلماذا لا يتم استقبال وحشى ويأخذ مثلا لقب «حربة الله التي لا تخطئ الهدف».....؟. المكان: مكة الزمان: 630 ميلادية الحدث: فتح مكة ما النتيحة؟ نال أهلُ مكة عفوًا عامًّا رغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول محمدٍ ودعوته، ومع قدرة الجيش الإسلامى على إبادتهم، وقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم النبى محمد فيهم، فقال: «ما تظنون أنى فاعل بكم؟»، فقالوا: «خيرًا أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍ»، فقال: «لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ» وعبارة «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتل أو السبي، وإبقاء الأموال المنقولة والأراضى بيد أصحابها، وعدم فرض الخراج عليها، فلم تُعامل مكة كما عوملت المناطق الأخرى. المكان: حصون بنى قريظة الزمان: 627 ميلادية الحدث: إبادة بنى قريظة السبب: 1- تآمر رجالات من بنى قريظة ضد المسلمين في حصار الخندق _ هم القادة فقط إن عممنا مع العلم أن هنالك آية تقول: «ولا تزر وازرة وزر أخرى». 2- وقد ثبت أن النبى قال لليهود وهو مشرف على حصون بنى قريظة وقد حاصرهم: «يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطواغيت أتشتمونني؟.. قال فجعلوا يحلفون بالتوراة التي انزلت على موسى: ما فعلنا ويقولون يا أبا القاسم ما كنت جهولا ثم قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرماة من أصحابه». وقد ناداهم بذلك لشتمهم إيَّاه. (الطبري(2/252) تحقيق الشيخ أحمد شاكر، وذكره ابن كثير بتحقيق الوادعي: (1/207). أريد هنا قبل أن أواصل أن أشير إلى أننا في سياق الحديث عن النبى نحن نتحدث عما يمكن تسميته «العقل الشامل» بدليل أنه لا ينطق عن الهوى. ونعود للمقارنة بين الحالتين – مكة وبنى قريظة: بنو قريظة هموا بالتمالؤ- والأمر لم يحدث- مع قريش من أجل القضاء على محمد ودعوته. فتم العفو العام عن قريش ونفذ الإعدام في بنى قريظة سيان من هم بنقض العهد أو من لم يهم بذلك فقد تم الحكم على بنى قريظة، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم، فكان يكشف عن مؤتزر المراهقين فمن أنبت منهم قتل، ومن لم ينبت جعل في الذراري، الراوي: - المحدث: ابن الملقن - المصدر: البدر المنير - الصفحة أو الرقم: 6/670 خلاصة حكم المحدث: صحيح مشهور. وهذا غلام ويُدعى عطية القرظي، لم يُقتل لأن المسلمين كشفوا عن عورته ولم يجدوا شعرًا (دليل البلوغ) فنجا من السيف المحمدي. عن عطية القرظي، قال: كنت من سبى قريظة، عرضنا على النبى - صلى الله عليه وسلم - فكانوا ينظرون؛ فمن أنبت الشعر قتل، ومن لم ينبت لم يقتل، فكشفوا عانتي، فوجدوها لم تنبت، فجعلونى في السبي. الراوي: عطية القرظى المحدث: الألبانى - المصدر: تخريج مشكاة المصابيح - الصفحة أو الرقم: 3901 خلاصة حكم المحدث: إسناده صحيح. قريش واجهت المسلمين في أكثر من معركة وحاصرتهم حصارا شديدا في الخندق وفى بدايات الدعوة انتدبت أربعين شابا لقتل محمد ليلة الهجرة وقبل الهجرة وفى مكة قتلوا وعذبوا المسلمين أشد تعذيب وفى فتح مكة وجدوا أمامهم أخا كريما وابن أخ كريم فقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء. بنو قريظة فقط هموا بالتحالف مع المشركين فكان جزاؤهم القتل الجماعي.. أين راحت الرحمة.. أم أن للاخوة و»أَتْبَنْعِيمَه» دورها في «العقل الشامل/المطلق». وكخلاصة: إذا كان مفهوم «بنو العم والعشيرة والإخوان» يجعل أبا بكر يحجم عن قتل المشركين وعلاقة الأبوة بين زينب والرسول تمنحها إطلاق سراح زوجها مجانا، والانتماء القرشى يعطى ألقاب البطولات للقرشيين ويمنعها عن الحبشيين. والأخوة وعلاقة الدم والقربى تمنحان حق الرحمة لقريش في الفتح وتحرمان بنى قريظة من ذلك الحق. وكل هذه الأمور تتم في عصر الدين فما بالك بعصر التدين؟ إخوتي أريد فقط أن أصل معكم– وأخاطب المعلمين أساسا– أن محاولة التفريق بين روح الدين وواقع التدين هي محاولات «طيبة لكنها لا تنافس» فالحقائق لا يمكن طمسها، وهذا الشبل من ذاك الأسد. وأن الذي يعانى يجب أن يكون صريحا مع ذاته في سبب معاناته مهما كان السبب، إذا كان الدين يلعب دورا فلنقلها بأعلى صوت: يلعب الدين ورجال الدين وكتب الدين أدوارهم في كل القضايا الاجتماعية من: قضايا الحراطين والمعلمين الذين ما زالوا صامتين رغم أن الدين يقر بأن مأكلهم حرام ومشربهم حرام وعملهم حرام.