( الحفيد) فيلم شاهده معظمنا إن لم يكن كلنا .. استرعى انتباهى يوما مشهدا من هذا الفيلم، الرائع قصة وتمثيلًا وإخراجًا وأكثر الأفلام المصرية ترجمة للواقع المصرى، وهو مشهد السبوع الذى رأيته مرارا وتكرارا ولم اتأمله بعمق إلا هذه المرة عندما وضعوا المولود فى الغُربال وأخذت الأيدى تحركه يمينا وشمالا . ولم أفطن للسبب وراء هذا الموروث الشعبى إلى أن تداعت إلى ذاكرتى مشاهد قديمة لجدتى "رحمها الله" تفترش الأرض أمام باب شقتها فى بيت جدى العتيق؛ الذى ما زالت رائحته الزكية بِعَبقِ بخور الصندل تملأ أنفى، وصوت الشيخ عبدالباسط عبد الصمد عبر أثير إذاعة القرآن الكريم يملأ أذنى حتى الآن يأتينى غضا طريا كأنما هو حى يرزق، وأشعة الشمس ملونة بألوانٍ زاهية هى نفسها ألوان زجاج النوافذ المعشق "أحمر أخضر أصفر أزرق" كأنها قوس قزح فى السماء نزل على الدَرَج العتيق ... آآآآآه ... لعبت برأسى الذكريات حتى سقتنى ثُمالاتِ سحرها ونسيت مقصدى من قصة جدتى .. حينما تُقيم جدتى جلستها على الأرض أرى بجانبها جوالا ممتلئا عن آخره بالغَلَة ( القمح ) يتوسطه إبريقٌ قديم ( كوز ) تملؤه مرتين أو ثلاثة ثم تُفرغ محتواه بالغُربال ثم تلتقطه من الأرض لتبدأ رحلة النقاء والتطهير ... أرى الملاءة القديمة التى افترشت بها الأرض وقد بدأت تمتلئ بكسر الحبوب والطوب والحبوب التالفة؛ ويبقى النقى الصحيح إلا من بعض العوالق القليلة التى تتخلص منها فى مرحلة التنقية .. آآآه ..ألهذا يؤرجحون الطفل فى الغُربال ؟؟؟ مسكينٌ هو لم يقترف إثما ولا ذنبا .. قلمى يراودنى عن كتابة المزيد من ذكريات الطفولة ..أى قلمى سأحكى لك حكاية المَنْخُل أيضا وهو شبيهٌ بالغربال إلا أنه أصغر حجما وثقوبه أضيق ويعمل بعكس آلية الغُربال .. فهو يحتجز السوس والشوائب العالقة بالدقيق .. وبنفس الجلسة كانت جدتى تنخل الدقيق فأراه يتهاوى تحت المَنْخُل ليُكَون جبلا أبيضا هش؛ لا أستطيع أن أقاوم رغبتى فى دَس أصابعى فيه؛ فإذا بى استمتع بذلك الملمس الناعم للدقيق واكتب عليه ما شِئت من الكلمات، وأكتم ضحكتى الصغيرة حين أرى جبلا آخر صغيرا مثله على رباط رأس جدتى الأسود وآخر على أنفها وكأنها خرجت لتوها من جوال الدقيق، وسر حبى لهذا المشهد هو أننى أعلم جيدا أنه سيأتى يومٌ قريب أشتم فيه رائحة العجين المميزة ويوقد الفرن البلدى المبنى بالطين ويُحمى عليه بأربطة القش المتناثرة على سطح البيت ويخرج من فوهته ألذُ وانقى رغيف خبزٍ طعمته فى حياتى ( لا يزال مذاقه فى فمى حتى الآن) تَراه مُحمَرَ الوجنتين كأنما يفتح شهيتى لتناوله وما أجمله بالسمن والسكر ... ياااااااااااه ما أحلاها وأنقاها من أيام وذكريات بقدر نقاء صاحبتها وبياض قلبها ... كم أعانى من الحنين لتلك الأيام الخوالى من الزيف والخداع ... هل كان الغُربال والمَنْخُل هو سر نقاء هذه الأيام وسر نقاء سريرة هؤلاء البشر كأنهم كانوا يُغربلون وينخلون الأخلاق والصفات ليأخذوا منها الرفيع ويتركوا منها الوضيع .. أما نحن وأسفاااااااه ..أيامنا تشبه رغيف الخبز الذى نأكله بطوبه وخشبه ومسماره نعيش الحياة بلا نخلٍ ولا غربلة.... ... غربلة تنقينا من كسر الأخلاق وتالف الصفات والعادات والتقاليد .. ولكن يحتاج كلٌ منا لغربال بالحجم العائلى ههههههه .. جدتى كم أحن إليكى وإلى بساطتك .. نعم البساطة، والرجوع إلى البساطة وليس سواها حتى لو اضطررت أن أركب آلة الزمن سأفعلها وللحديث بقية .....