على قدر الذكريات الحزينة ارتسمت ملامح الحزن وظهرت التجاعيد على وجه الحاج محمود خليفة وهو يحكى لنا كشاهد عيان قصة قريته بنى فيز بمركز صدفا بجنوب أسيوط والموصوفة، «بالمغضوب عليها والملعونة وبنى الفساد» وهى الأوصاف التى التصقت بها بعد مسلسل النار والدم الذى أهلك أهلها ودفع الرئيس جمال عبد الناصر إلى اتخاذ قرار بهدمها ومحوها من على الأرض. يعود أصل أهلها إلى العرب الذين أتوا مع الفتح الإسلامى وأشهرهم بنو عقيل «العقايلة» وبنو الاشول وكلاهما من أكبر العائلات هكذا بدأ الحاج خليفة يتذكر الماضى كمن ينحت فى الصخر لهول ما فيه من آلام قائلا: بسبب هاتين العائلتين اشتعلت القرية منذ أكثر من مائة عام ووصفت باللعنة بعد أن جاءها رجل زاهد صالح تقى ناصحا للناس فملت منه ثلاث عائلات وتراهنت فيما بينها على من يقدر على قنصه بطلقة واحدة فى مرة واحدة. وبالفعل والكلام للحاج خليفة استطاع أحد الثلاثة المختارين من العائلات الثلاث على قنصه بطلقة واحدة وهو على المنبر فمات وبعد أيام قليلة وجده أحد من أهل القرية يمشى فى شوارعها ليلاً وهو يقول: خراب خراب يابنى فيز ومن حينها والقرية لا يتوقف فيها القتل وسفك الدماء. يرجع بذاكرته للوراء ويقول: فى عام 1961 نشب صراع بين بنى الأشول وبنى عقيل على «العمودية» تحول لمعركة شرسة انحازت فيها باقى العائلات وانقسمت لمعسكرين متقاتلين «قبلى وبحري» وشارك فيها النساء والأطفال إلى جانب الرجال وتخللها حرب كر وفر ونصب كمائين وموت بمعدل 60 فردا يوميا لفترة طويلة. الحاج خليفة يكمل:المعركة تحولت فى أذهان أهالى القرية إلى بطولات وأساطير أصبح يتباهى بها أصحابها وورثتهم وأصبحوا يتعالون بسبيها على أهالى القرى المجاورة لهم، وأبرز الذين اشتهروا على أثرها كأبطال هم العشرى وأبو الليل وعبد الستار سلطان ومحمود صالح وآخرين ولهذه انتقلت عدوى النار والدم إلى القرى الأخرى حتى وصلت المراكز الأخرى وأصبحت السيطرة عليها ضربا من ضروب المستحيل. على أثر المعارك والكلام للحاج خليفة حل الخراب ورملت النساء بعد أن اضطررن لحمل السلاح بجانب أزواجهن فى المعارك وسرعان ما أصبحت بلا زرع وماتت المواشى وخلت المنازل من الخير بسبب الدماء ومن ساكنيها بسبب الموت. حال الشرطة وقتها كان يشبه حال الشرطة الآن مع الفارق الشاسع فى تفاصيل الظرف السياسى حيث قال الحاج خليفة: لم تنجح الشرطة بكل قوتها فى إيجاد حل واستنفدت كل الحيل والمكائد بلا جدوى وذات مرة قتل أحد أفراد العقايلة ثلاثة من عائلة أخرى ووعد الشرطة بتسليم نفسه لها وأخبر الضابط الذى استلمه بأن لا يمر به على منطقة أعدائه حتى لا يقتلوه ولكن الضابط مدفوعا بصيته المسموع أصر على المرور عليهم بسيارات الشرطة فقاموا واستوقفوه وفتشوا السيارات وسألوه عنه فقال لهم: وهل إذا وجدتموه فى السيارة ستأخذونه فقالوا له: ولو كان فى بطنك لشققناها وأخرجناه منها. فى ذلك الوقت - والراوى الحاج محمود خليفة - توجه لزيارتها ممدوح سالم رئيس الوزراء الأسبق وكان وقتها محافظا لأسيوط بتكليف من عبد الناصر لإيجاد حل لها فقطع أهلها عليه الطريق واعتدوا على الأمن المرافق له وكادوا أن يحتجزونه كرهينة بعد أن نكلوا به وأمروه بعدم العودة لها ثانية، فعاد إلى القاهرة وقدم استقالته لعبد الناصر وخيّره بين قبولها أو تأديب القرية فأصدر ناصر قرارا بنزول الجيش ووقعت معركة أبيدت فيها القرية بعد أن هرب أهلها إلى الجبال واستخدم حيش ناصر فيها الطائرات وظلت القرية فترة طويلة خالية من السكان حتى جاءت حرب 67 فتم اخلائها من العسكر وعادت إليها الحياة من جديد. أنهى الحاج خليفة كلامه بأن القرية بها الآن ترسانة من الأسلحة بكل أنواعها بكميات كبيرة ومتطورة وبها ما يقرب من 200 لغم، ويعرف أهلها الجرنوف والآر بى جى والهاون ويدفعون فى السلاح كل ما يملكون ويحرصون على امتلاكه حتى ولو اضطروا لبيع الأرض والمواشى.