آن أوان المصارحة, وحانت لحظة المكاشفة, وتشخيص سلبيات السلوك السياسى السائدة، وإعطاؤها التكييف الصحيح بلا مداهنة ولا مراوغة. آن أوان التخلى عن الجبن الأخلاقى الذى يمارسه عديد من المثقفين والإعلاميين فى الفضائيات الإعلامية الفوضوية، الذى يمنعهم من نقد السلوك الغوغائى لبعض ائتلافات الثورة. وهذه الائتلافات تريد أن تعوض فشلها فى الانتخابات , والذى كان متوقعاً بحكم قصر مدة الاستعداد, وانعدام صلتها بالشارع , وعدم معرفتها للغة الجماهير، وذلك بتخريب المسيرة الديموقراطية التى اختارها الشعب المصرى ,وأقرها بإجماع تاريخى فريد. وقد شهدنا جميعاً كيف خرج ملايين المصريين رجالاً، ونساءً , وشباباً، للانتخابات للإدلاء بأصواتهم، ترسيخاً لقيمة المشاركة السياسية الإيجابية، واحتراماً لقيمة الصوت الانتخابى فى اختيار الحزب السياسى الأصلح..غير أن نتيجة الانتخابات، وخصوصاً بعد فوز حزب «الحرية والعدالة» الذراع السياسى للإخوان المسلمين وصعود التيار السلفى، وقلة عدد المقاعد التى حصلت عليها الأحزاب الليبرالية وممثلو شباب الثوار، لم ترض عدداً من الائتلافات الثورية التى هاجمت نتيجة الانتخابات، باعتبارها غير معبرة عن الإرادة الشعبية، وكان فى هذا الاتهام طعناً فى حرية اختيار الشعب لممثليه فى البرلمان. غير أن الهجوم على نتيجة الانتخابات لم يكن سوى الخطوات الأولى فى مسار تخريب المسار الديموقراطى، وذلك لأنه تبع ذلك تنظيم مظاهرات حاشدة ومليونيات لا تنتهى، تبدأ بالهجوم على المجلس الأعلى للقوات المسلحة, والخلط فى النقد المشروع لبعض قراراته, والجيش نفسه، وارتفعت الهتافات البذيئة «عسكر كاذبون». ووقفت مظاهرات غوغائية أمام مبنى «ماسبيرو» ومارس أعضاؤها جريمة إهانة ضباط الجيش , وجنوده ، الذين يحمون المبنى، وذلك بالإشارات البذيئة وبالشتائم المسفة ،سعياً وراء أن يرد الضباط والجنود عليهم بالعنف، وتنشب معركة يسقط فيها بالضرورة ضحايا ومصابون حتى ترتفع الهتافات مستنكرة سقوط «الشهداء» وتعلو الأصوات المطالبة بحقهم والقصاص لهم. وهكذا ندور فى حلقات مفرغة، الغرض منها فى الواقع افتعال الصدام سواء مع قوات الجيش أو قوات الأمن. وقد لجأت السلطات إلى خطة حكيمة، وهى ترك ميدان التحرير وغيره من أماكن التظاهر للمتظاهرين والمعتصمين، بدون أى وجود لقوات الأمن منعاً لاحتمالات التصادم. غير أن المظاهرات أمام ماسبيرو بعد تعرضها للهجوم من قبل مجموعات مجهولة الهوية طالبت – ويا للتناقض- بضرورة أن تحميها قوات الأمن! ومن ناحية أخرى توجهت مظاهرات حاشدة إلى مجلس الشعب، ليس لعرض مطالب محددة، وإنما لفرض خطة سياسية الغرض منها عدم إتمام المسيرة الديموقراطية بل تجميدها، على أساس ضرورة تسليم السلطة فوراً للمدنيين، والسؤال من هم هؤلاء المدنيون؟ فى اجتهاد «ثورى» قبل تسليم السلطة لرئيس مجلس الشعب الإخوانى مع أن الثوار يعترضون على حكم الإخوان! وفى اجتهاد «ثورى» آخر ينبغى اختيار رئيس جمهورية انتقالى حتى يتم وضع الدستور ثم تجرى بعد ذلك الانتخابات الرئاسية. هذه صورة من التخبط السياسى الذى ليس له حدود. وإذا أضفنا إلى ذلك الزعم بأن الشرعية الثورية أو «شرعية الميدان» هى الأساس وليست الشرعية الديموقراطية التى يعبر عنها البرلمان، فمعنى ذلك أن هناك نزعة للتقليل من شأن الشرعية الديموقراطية التى اختارها الشعب المصرى لحساب شرعية الشارع السياسى الذى تسيطر عليه الخلافات العميقة والانشقاقات الحادة بين مئات الائتلافات الثورية. فى ضوء ذلك نفهم النزعة الفوضوية التى أدت إلى أحداث بور سعيد والتى أثارتها جماعة «ألتراس الأهلى» والتي رفع أعضاؤها لافتات فيها إهانة متعمدة للشعب البورسعيدى مما أثار الجماهير وحدثت الوقائع الدامية المؤسفة. ومن الغريب أن يحاول بعض المثقفين والإعلاميين وضع مسئولية الأحداث على عاتق الأمن، أو على عاتق مؤامرات أنصار النظام السابق. مطلوب حد أدنى من الشجاعة الأدبية للاعتراف بسلبية الغوغائية السياسية التى تمارسها تيارات شتى محسوبة للأسف على ثورة 25 يناير!